المحرر
الغرفة التي رقدت فيها يوماً جثة القذافي الدامية تمتلئ الآن بصناديق تعلوها الغبار، اختفت الثلاجة الذي وُضِعت فيها جثة ابنه أيضاً.
لكن ظلَّ الديكتاتور الليبي والقوى التي أطلقها موته مسيطراً على حياة أنور صوان، حسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأميركية.
بعد ساعات من قتل القذافي وابنه في الثورة الليبية التي هزَّت العالم العربي، حمل مقاتلو مصراتة جثثهم كغنيمة إلى مدينتهم الممزقة بالحرب.
قضت الجثث ليلتها الأولى في بيت عائلة صوان، مما أعطاه شرفاً ثورياً. يعمل بيته الآن، الذي تحول لمحطة لشحن الأسلحة، بدور مركز لخدمة ميليشيات المدينة ودعم سعيهم لفرض سلطتهم في المنطقة.
رسائل كراهية
يخزِّن هاتف صوان ذو اللون الأصفر الكناري رسائل كراهية يرسلها موالون للقذافي يعتقدون أنه لعب دوراً في مقتل القذافي وابنه ويعرف المكان السري الذي دُفِن فيه قائدهم.
تقول إحدى الرسائل “نحن قادمون إليك وسنريك، يا ابن الحرام”.
وفي دولة تسيطر عليها موسيقى العنف، كان صوان من أمهر عازفيها. فقد انضم للقتال في قرابة كل الصراعات التي تلت موت القذافي، وساعد في إشعال المسار الفوضوي للبلاد – بداية من المنافسة التي خرجت للنور بعد أربعين عاماً من الحكم الاستبدادي، وحتى النزاع الذي تلاها على السلطة، والنفط، والأرض.
يقول صوان “شاركت في كل حرب منذ عام 2011 بنفس الحماس”، وهو رجل مدبب الأنف، ومدير أعمال سابق يبلغ سنه 45 عاماً، ويتحدث بصوت خشن وآمر.
يشتري صوان لصالح ميليشيات مصراتة، وهي إحدى أقوى الفصائل في ليبيا، أسلحة غالباً ما تكون متبقية في مخازن القذافي، بالإضافة إلى سترات واقية من الرصاص، والطعام والماء – أي شيء قد يعطيهم الأفضلية على خصومهم الإقليميين والقَبليين والسياسيين.
ومنذ مايو/أيار 2016، يؤمن صوان أسلحة للمليشيات التي تحارب التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا في مدينة سرت الساحلية، والتي تبعد 120 ميلاً شرق مصراتة.
وقد استطاع المقاتلون، بدعم أميركي، التقدم حتى مركز مقر ميليشيات الدولة الإسلامية، مسددين ضربة قوية لتطلعات توسيع “خلافتهم” في شمال أفريقيا.
لكن بالنسبة لعالم صوان من بعد الربيع العربي، توجد دائماً معارك يجب خوضها، وأعداء على مد البصر.
يقول صوان “يوجد أكثر من قذافي في ليبيا الآن”.
إيصال الأسلحة
وفي ليلة ليست بعيدة، امتلأت سيارة نقل بيضاء مركونة داخل مجمع صوان السكني بصناديق معدنية محمّلة بالرصاصات وقذائف هاون، مرصوصة مثل خضار في سوبرماركت.
وفي وقت سابق من نفس اليوم، قاد صوان سيارته إلى العاصمة، طرابلس، كما يفعل عادةً. حمل معه نقوداً تم جمعها من مدراء أعمال مصراتيين متعاطفين ومن القيادة العسكرية للميليشيات، وقام بزيارة ما وصفهم بأنهم “تجار حرب” يتاجرون فيما تبقى في مستودعات أسلحة القذافي وفي الأسلحة المهرّبة التي اجتاحت البلاد بعد سقوطه.
وخلال هذه الرحلة، قال صوان أن بعض الأشخاص تبرعوا بعلب من الرصاص من مخزونهم الشخصي.
قال صوّان “تتجه إلى سرت شاحنة مثل هذه خمس مرات أسبوعياً”، ملتحياً ومرتدياً جلباباً وطاقية من الزي الليبي.
كم من الوقت يدوم هذا القدر من الذخيرة؟
يرد في نصف مزاح “ثلاث ساعات، يهدر مقاتلونا الكثير من الرصاص”.
منذ خمس سنوات، امتلك صوان مصهراً للألمونيوم ومصنعاً لعلف الحيوانات. لكنه، مثل العديد من أصحاب الوظائف في ليبيا، حمل سلاحاً وانضم للثورة. وتحولت مصراتة، ثالث أكبر مدينة في ليبيا، لساحة حرب كبرى، وشهدت اشتباكات عنيفة وقصفاً يومياً بين الثوار وأنصار القذافي. استولى الثوار على مصراتة في مايو/أيار عام 2011 بمساعدة هجمات حلف شمال الأطلسي الجوية.
وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2011، قُتِل القذافي وابنه معتصم في سرت، وأحضر مقاتلو مصراتة جثثهم إلى ثكناتهم هنا. وخارجها، طالبت الحشود برؤية الجثث. أراد المجلس العسكري المحلي للمدينة أن يجري طبيب فحصاً شرعياً للتأكد من هويتهم، وعرض صوان بيت عائلته لإجرائه.
قال “احترم الناس بيتي، ولم يكن ليجرؤ أحد على اختراق حرمة بيت شخص آخر”.
في اليوم التالي، نُقِلت الجثث إلى سوق محلية، حيث عُرضت في خزانة تبريد صناعية لمدة ثلاثة أيام.
وخلال الشهور والسنوات التالية، وبينما تنقسم ليبيا أكثر وسط عنف الفصائل المتقاتلة، وجد صوان ما يؤمن به، وانضم لميليشيات مصراتة التي تحارب قبائل متعاطفة مع القذافي في مدينة بني وليد وميليشيات معادية في طرابلس.
وقال صوّان “أينما كان مقاتلونا، أذهب لمساعدتهم”، وكان قد سافر جواً في اليوم السابق إلى لمدينة سبها في الجنوب لإيصال إمدادات لفصائل أخرى من مصراتة.
يمتلئ المستودع الذي يسكن فيه صوان بالوسائد، والسجاد، والوايفاي. وفي معظم الليالي يتحول لغرفة عمليات حيث يساعد مناصرو الميليشيات الموجودة في سرت صوان في تحصيل وتوزيع الإمدادات إلى الجبهة وفي تبادل الأخبار المتعلقة بالحملات المضادة للدولة الإسلامية.
وقال صوان “سأتزوج وأنجب أطفالاً عندما تستقر ليبيا”.
قال صديق يجلس بقربه ساخراً “ستكون في الثمانين وقتها”.
التعامل مع الفصائل
تغطي جدران المستودع آيات قرآنية منقوشة بخط كبير منمّق. وعُلِق بأحد الأركان تيشيرت مطبوع عليه “أنا أحب –شكل قلب-محمد” لتعظيم النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم.
حسب التقرير لا يدل هذا على تديّن صوان فقط، لكن يكشف أيضاً ميوله السياسية. يدعم صوان تحالفاً فضفاضاً بين الميليشيات ذات الاتجاه الإسلامي، ويأتي معظمها من مصراتة، ويُسمَى التحالف “فجر ليبيا”، وقد قام بمهاجمة مطار طرابلس وسيطر على العديد من أجزاء المدينة في صيف عام 2014. وعيّنت حكومة إسلامية التوجه نفسها في السلطة على طرابلس تحت حماية ميليشيات التحالف، بينما تسيطر حكومة منافسة على شرق طرابلس.
والآن تؤكد حكومة أخرى، يدعمها الغرب وتوسطت لتشكيلها الأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، سلطتها على ليبيا.
اختار مجلس مصراتة العسكري الذي ينسّق حركة المقاتلين في سرت الانحياز إلى صف حكومة الوحدة الليبية، بقيادة رئيس الوزراء فايز السراج. لكن لم يعجب صوان هذا الاختيار، مشيراً إلى حدوث انقسام بين الميليشيات حول الأمر.
وقال صوان “نصّبه المجتمع الدولي في السلطة، فرضوه علينا”.
لكن التهديد الأكبر بنظر صوان، والأخطر أيضاً من تهديد الدولة الإسلامية، هو الجنرال خليفة حفتر، زعيم عسكري تسيطر قواته على عدة مناطق في شرق ليبيا. لم يعترف الجنرال، الذي قضى عشرين عاماً في المنفى شمال ولاية فيرجينيا، بحكومة الوحدة وسيضمن وجوده استمرار تجارة صوان لفترة طويلة.
قال صوان “حفتر هو قذافي الجديد”.
وقال، مشيراً لجانب من المستودع “قريباً ستجد جثته هنا”.
ويبدي مجلس مصراته حذره تجاه تأثير صوان على قادة الميليشيات ومعارضته العلنية لحكومة الوحدة.
وقال العميد محمد الغسري، المتحدث باسم غرفة عمليات المجلس “يحب أنور الاستعراض، وأن يكون محوراً للاهتمام. لكنه في الحقيقة شخص عادي.”
“اضربه بعصا”
يدخل رجل نحيل وكبير السن إلى مستودع صوان، ويبدو وجهه عابساً. أصيب أحد قادة الميليشيات أثناء القتال مع الدولة الإسلامية في سرت. قال محمد جلوان “أصابته شظايا من قذيفة هاون في وجهه، لا يزال حياً”.
التقط صوان هاتفه المحمول واتصّل ليسأل إذا كانت الميليشيات بحاجة للمزيد من السلاح. باستطاعة الشاحنة التوجه إلى سرت بحلول الفجر.
قال بعد إنهاء المكالمة “لو أمدّنا الغرب بالذخيرة، كنا قضينا على داعش منذ البداية”، مستخدماً الاسم الشائع للدولة الإسلامية.
لن نخرج من سرت
يأمل صوان أن يؤدي النزاع على سرت لتحقيق تأثير أكبر لمصراتة على المنطقة التي يتم إنتاج أغلبية نفط ليبيا فيها. وتحدث صوان عن اقتراح خطة لبقاء ألف مقاتل لحماية وتأمين المدينة. وماذا سيحدث إذا رفضت سرت، وهي معادية لمصراتة، وجود الميليشيات؟ فتظل سرت مسقط رأس القذافي، حيث ما تزال قبيلته مسيطرة.
وقال صوان “من سيحرر سرت يلتزم بحمايتها. إذا لم يريدوا تواجد مقاتلي مصراتة، لماذا لم يحرروا مدينتهم بأنفسهم؟”.
وذكر جلوان، والذي كان مصوّراً شخصياً للقذافي في أواخر الثمانينيات، مساعدة مقاتلي مصراتة في تحرير سرت عام 2011، وموافقتهم لتسليم المدينة لأهاليها وقتها. لكن سكان المدينة سمحوا لأنصار القذافي بالعودة إليها، وتبعهم تنظيم الدولة الإسلامية إلى احتلالها.
قال جلوان “لن نكرِّر نفس الخطأ مجدداً”.
وقال صوان “ما يحتاجه توحيد ليبيا هو القوة والمال. يشبه الأمر تربية طفل. تعطيه ملابس جديدة وألعاباً، وعندما يخطئ، تضربه بعصا”.
استخدم القذافي استراتيجية مشابهة للسيطرة على ليبيا.
روى صوان أن بعض أقارب القذافي عرضوا عليه 25 مليون دولار للكشف عن مكان قبر الديكتاتور، لكنه رفض عرضهم.
يتذكّر صوان “قلت لهم، عندما تأتون بحكماء عائلاتكم وأكبر رجالها، وتقولون “نحن مسئولون عمّا فعله القذافي في الأربعين عاماً الماضية” سأعطيكم جثته، لكنهم قالوا “لا نتحمّل مسئولية أفعاله””.
أين دفن القذافي؟
أبقى قادة مصراتة مكان القبر سرياً، خوفاً من أن ينتهك مقاتلو الميليشيات حرمته أو أن يجعل مناصرو القذافي القبر “ضريحاً، ويحولوه لفاتيكان خاص بهم” قال جلوان، ووافقه صوان بإيماء رأسه.
يقول أهل مصراتة إن القذافي دُفِن بحضور ثمانية أشخاص. هل كان صوان منهم؟.
قال جلوان “حتى إن كنت أعرف، لن أخبر أحداً. أقسم كل من حضر دفن القذافي بألا يعرف أحد”.
ورفض صوّان الانضمام للحديث بهذا الشأن.
بعد مرور لحظات، خرج صوان للاطمئنان على الذخيرة المحمّلة في شاحنته وهاتفه في جيبه. ومع أن حياته تدور بأكملها حول الحرب وخطرها الدائم، لا يندم صوان على حدوث الانتفاضة التي قلبت وضع بلاده رأساً على عقب، وقد تستمر في ذلك لسنين قادمة.
يقول صوان: “يظل أسوأ يوم نمر به الآن أفضل من أي يوم جيد تحت حكم القذافي”.