الكبير الداديسي
ما أن أُعلن عن سقوط الطفل المغربي ريان في بئر ارتوازي في منطقة نائية ضواحي مدينة صغيرة شمالي المغرب حتى انتشر الخبر في الإعلام العالمي انتشار النار في الهشيم، وأضحى الحدث مادة متداولة على كل المنابر الإعلامية وفي كل الملتقيات والمحافل العالمية… وهو ما يفرض على كل ذي لب وكل مهتم مقاربة الظاهرة كيفما كان تخصصه (اجتماعي، نفسي، اقتصادي، إعلامي، سياسي، تربوي وفني…) بعد أن حاصرتنا أسئلة كثيرة محيرة من قبيل ما سبب كل هذا التعاطف العالمي والإنساني مع طفل في زمن تنتهك فيه حرمة الأطفال في أماكن متعددة؟ وكيف استطاع طفل ذو خمس سنوات من اسرة فقيرة بمنطقة منسية أن يوحد قلوب بلد بكامله من أعلى قمة بهرم السلطة إلى أدنى شخص من العامة؟
فكما أعرب عاهل البلاد عن (أحر تعازيه وأصدق مواساته لكافة أفراد أسرة الفقيد في هذا المصاب الأليم، الذي لا راد لقضاء الله فيه)، ودعا (الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جنانه، وأن يلهم ذويه جميل الصبر وحسن العزاء، في فقدان فلذة كبدهم.) فقد عجت شبكات التواصل الاجتماعي ومنظمات المجتمع المدني بكل معاني التضامن والتآزر والاستعداد لمد يد العون لأسرة الطفل الفقيد…
وأكثر من ذلك استطاع تأثير حادث ريان أن يتجاوز حدود المنطقة النائية والحدود الوطنية الضيقة ليجعل قلوب البشرية تنبض بنفس الإحساس، فحطم الحدود، ووحد المشاعر، واستطاع ريان فعل ما عجزت عنه السياسة والرياضة والفنون في التقريب بين الشعوب وتوحيد المشاعر حول هدف واحد هو الحب… لدرجت بالغت القراءات الدينية في إضفاء صفة “الطفل المعجزة” و“الملاك“ المرسل للإنسانية ليبعث فيها قيم الحب والتضامن من جديد…
فمن له القدرة على جعل بابا الفاتكان، ومنظمة الأمم المتحدة واليونيسف والاتحاد الأوربي والاتحاد الإفريقي ورؤساء بعض الدول، والعديد من الأندية الرياضية العالمية، والشخصيات العامة من رجال الدين والفنانين والرياضيين والإعلاميين وغيرهم من المؤثرين الاجتماعيين… ترسل رسائل التعاطف والتعازي لأسرة فقيرة منسية في جبال الريف بقرية لم يسمع بها أحد من قبل؟ فيخاطبها البابا فرنسيس بالاسم (أريد أن أقول لأسرة الصغير ريان والشعب المغربي أننا نشارطهم آلامهم)، وتصلهم رسائل من أمراء ورؤساء وحكام من مشارق الأرض ومغاربها، بل جعل ريان المتنافسين على كرسي الرئاسة الفرنسية يتسابقون في إعلان تضامنهم؛ فبعث الرئيس الفرنسي ماكرون برسالة تعزية وأعلن منافسه يانيك جادوت،(عن حزنه وتعاطفه مع ريان وأسرته والشعب المغربي المكلوم). وأعربت آن هيدالغو، المرشحة الرئاسية ورئيسة بلدية باريس، عن “حزنها الشديد”. وأكدت تقول (كل تعاطفي ودعمي لأسرة الصغير ريان).
أشخاص ذاتيون ومعنويون، أفراد ومؤسسات ودول وتنظيماتيستحيل ذكرها كلها بالاسم والصفة تعلن عن تضامنها واستعدادها لإرسال مساعدات لعائلة ريان، حتى القنوات الفضائية التي تحسب الوقت بأجزاء من المئة، وتستغل أجزاء الثانية لجلب المال من عائدات الإشهار لخصت كل برامجها في بث مباشر لعمليات إغاثة ريان والتضامن معه، فصارت صورة ريان ترفع في المظاهرات، وفي مدرجات الملاعب الرياضة، وعلى قمصان اللاعبين، وغدا كل هدّاف ما أن يسجل هدفا حتى يرفع قميصه ليعلن للعالم اسم أو صورة ريان … فأي سر في هذا الفتى حتى يحرك كل هذه المشاعر ؟ ويكسب كل هذا التعاطف؟
آلاف الأطفال ماتوا ويموتون في ظروف قاسية ولا أحد سمع بهم أو عرف معاناتهم، عشرات الحالات جرفتهم السيول أو سقطوا في غيابات الابار عبر مناطق متفرقة في العالم ولم يحركوا شعرة في الضمير الجمعي الإنساني… صحيح هناك حالات رصدهاالإعلام في اللحظة والمكان مثل ما حدث في ديسمبر 2018 عندما سقط شاب ثلاثيني يُدعى عيّاش في بئر يصل عمقها حوالي 100 بالجزائر وظل عياش محاصرًا في تلك البئر لمدة تسعة أيام يتم استخراجه ميتا بعدما لم يستطع العيش في مكانه أكثر من أربعة… وفي يوليو 2018 كان اثنى عشر طفلا قد علقوا رفقة مدربهم في كهف بالتايلاند بعد هطول أمطار غزيرة سدّت مدخله الكهف وعزلتهم عن العالم لمدة 17 يوما من المعاناة ، وأشار الإعلام في يونيو 2020 إلى 33 عاملا من عمال المناجم قد علقوا 69 يوما تحت الأرض في منجم سان خوسيه بالشيلي ، في ذات الشهر سقط شاب بريطاني يُدعى جاكوب روبرتس، في بئر أثناء فراره من كلب كان يطارده فانكسرت ساقه ولم يتم إنقاذه إلا بعد ستة أيام كاملة عاش فيها على قليل من الماء كان في قاع البئر… وقبلها بسنتين وفي يوليو 2018، تمكن فريق إنقاذ في مرتفعات اسكتلندا من انتشال طفل يبلغ من العمر تسع سنوات كان قد أصيب في أحد الكهوف المطلّة على بحيرة أثناء رحلة استكشافيةبعد 36 يوما من الحصار… كما تم إنقاذ أربعة أحياء من بين 17 من العمال حوصروا أزيد من 36 يوما تحت الأرض وفي يناير من عام 2016 أنقذت السلطات في إقليم شانغدونغ شرقي الصين وفي الصين أيضا وتحديدا في مدينة باوتو الشمالية، وفي شهر مايو من نفس السنة لم يتم إنقاذ طفل كان قد سقط في حفرة ضيقة عمقها ستة أمتار إلا بعد أن تدّلى أحد عُمال برأسه داخل الحفرة وقد أمسك زملاؤه بقدمه حتى يجلب الطفل بيديه ويتم إرسال الطفل إلى المستشفى للعلاج. وفي مارس من سنة 2013 في ولاية فلوريدا الأمريكية ابتلعت حفرة رجلا ثلاثينيا يدعى جيفري بوش كان في غرفة نومه نتيجة انزلاق أرضي. وحال استمرار الانزلاق في المكان دون إنقاذه نظرًا لاتساع قطر الحفرة الذي بلغ نحو 30 مترًا، ليتم تعليق مهمة البحث عنه...
هي حالات كثيرة متنوعة ومتعددة ظل تأثيرها محدودا في المكان والزمان، وقلة هي الحالات التي اتسع تأثيرها في المدى واخترقت صور الضحايا فيها الحدود وتغلغل تأثيرها للأفئدة ليبقى السؤال هو لماذا تحظى حالات دون غيرها بتعاطف أكبر وقد تكون المأساة في الحالات المنسية أعمق؟
صحيح أن هناك الحالات استطاعت أن تهز مشاعر الإنسانيةلكن تأثيرها ظل دون الزلزال الذي أحدثته حالة ريان في الوعي الجمعي الإنساني. يكفي أن نذكر من تلك الحالات صورا بقيت عالقة بالأذهان تجاوزت شهرتها الآفاق منها:
كل هذه الصور وغيرها كان لها تأثيرها الخاص، لكن صورة ريان اليوم تجاوزت كل الحدود وتسللت لقلوب كل الأفراد واجتماعات كلالاتحادات المحلية الجهوية والقارية ففرضت المنظمات الدولية (الأمم المتحدة، اليونيسف...) والاتحادات القارية (الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوربي)… إصدار بيانات وتقديم التعازي والمواساة لأسرة الفقيد، بل إن وفاته فرضت نفسها في مساجد العالم يصلي لها المصلون في صلاة الغائب، وأوقفت مباريات كرة القدم في كل الأصقاع بما فيها نهائي بطولة إفريقيا للأمم دقيقة صمت وقراءة الفاتحة على روح موحد المشاعر…
ليبقى السؤال هو ما الذي أحال ريان رمزا، وما الذي جعل صورتهتحظى بكل هذا الاهتمام دون غيرها من ملايين الصور التي تطلع علينا يوميا من الدول التي تعرف صراعات وحروبا تُظهر أطفالا في وضعيات مأساوية؟
إذا اجتهدنا في التفسير نقول قد يكون لوسائل الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي وقدرتها على تسريع زمن الاتصال وتدويل الأخبار أثر في ذلك لما لها من قدرة على تحويل الناس العاديين إلى عيون ترصد كل كبيرة وصغيرة وتدويلها، وتأليب الرأي العام الدولي عندما يتعلق الأمر بانتهاك حقوق الفئات الهشة (النساء، الشيوخ، ذوو الهمم والأطفال) لكن لصورة ريان شيء ما جعلها مختلفة عن كل تلك الصور التي ترد علينا لأطفال يعذبون، يذبحون، يقتلون... في عدة بؤر ساخنة من العالم أو على ايدي خادمات أو مختلين لكن تبقى صورة ريان في الجب من اقوى الصور التي استطاعت تحريك مشاعر الإنسانية. إن لم نقل إنها تبقى أهم تلك الصور على الإطلاق على الأقل في الفترة الراهنة، لدرجة لا تكاد تتصفح جريدة ورقية أو إلكترونية. أو تتابعقناة تلفزية، أو تستمع لقناة إذاعية… دون تطالعك صورة الطفلريان وخبره على صفحتها الأولى وعناوينها الرئيسة.
كما قد تكون رمزية البئر واسم الطفل ولونه وبراءة الطفولة وتوقيت الحدث من أسباب هذا الانتشار والتعاطف، فللطفل في غيابات الجب تأثير ديني في النفس الإنسانية ولقصة يوسف (أحسن القصص) اثرها الخاص خاصة على أتباع الديانات الإبراهيمية فقد حُمّلت صورته وهو في الجب دلالات دينية في المساجد ولدى الدعاة فترددت أدعية يونس في بطن الحوت، يونس في غيابات الجب، ورد موسى إلى أمه، كما تم تداولت وسائل الإعلان صور ريان بإيحاءات دينية تارة وهو بجناحي ملاك، وتارة صورته وهو يحمل خروفا صغيرا وغيرها من الصور التي تثير الجانب العاطفي الدني لدى المشترَك الإنساني…
كما أن اسم ريان بدا اسما عالميا يسهل نطقه وتداوله على مختلف الألسنة… وإذا أضيف إلى ذلك ملامح الطفل سمرته دقة ملامحه مما جعل منه صورة محبوبة تجلب التعاطف لمجرد رؤيتها…
كما قد يكون للمكان سحره فلو مات هذا الطفل منسحقا في حادثة سير تحت عجلات عربة ما أو حتى تحت سقوط مبني أو خلال تفجير القنابل والبراميل والمتفجرات لكان مثل غيره من القتلى الذين تتردد صورهم عبر القنوات دون أن تحرك شعرة من الضمير الإنساني شيئا، فللبئر تأثيره في المخيال الإنساني فيما تناقلت القنوات صورا لمآسي ومعاناة أطفالا وظل تأثير تلك الصور والأحداث محدودا…
وبالإضافة إلى المكان والمحتوى ربما كان لتوقيت الحدث دوره الأساس في جعل صورة ريان صورة فيروسية تخترق كل المواقع والوسائط وتحظى بكل هذا التعاطف، فتوقيت الحدث هو خروج العالم من محنة وباء كورنا، وباء أغلق الحدود وقتل الآلاف وحاول إعادة بريق لمعاني التضامن لكن احتكار اللقاحات والأدوية أجهض ذلك البريق… فكان حدث ريان الشرارة التي أحيت الأمل في غد مشرق يعود فيه الأطفال لمدارسهم، ويتمتعون فيه بحياة كريمة بعيدا من الأوبئة وما خلفته في النفوس… إضافة إلى كون صورة الطفل في قعر جب معزول بجبل، لا يدرك شيئا من الجلبة التي تصخب خارج الجب صورة “رومانسية” تقطر ألماً لحال طفل يموت بالتدريج من البرد والجوع الألم وملايين البشر تتابع مأساته وتعرف أنه يحتضر، ولا أحد يستطيع لمد يد العون إليه سبيلا…
فعلى الرغم مما كان في تغطية الحدث من انتهاك للخصوصية، وتخط لحرمة مهنة الصحافة، وكثرة الشائعات وغياب الموضوعية، وقلة التواصل مع الجهات الرسمية المسؤولة فقد كانت صورة الطفل في البئر تتجاوز كل مقاييس الزمن فبينت أن الزمن لا يقاس بعدد السنوات وإنما بمدى التأثير ومخاطبة المشاعر المشاهدين، وتحريك أحاسيس المتتبعين، ومخاطبة الذاكرة الجمعية الإنسانية وقدرة التأثير في المشاهدين، فقد كان تأثيرها أقوى من كل الأشكال الاحتجاجية، ومن بيانات المنظمات وتحذيرات الكيانات التي تندد بمادية العصر وتدعو إلى القيم الإنسانية… واستطاع صورة ريان أن تقرب بين القلوب، وتوحد بين الشعوب وبين عشية وضحاها استطاعت روح طفل من قعر جبجعل قلوب الشعوب العربية تخفق على ذات الأنفاس وهو ما عجزت عنه كل قمم جامعة الدول العربية على مدى أزيد من نصف قرن…
وحتى وإن عجزنا عن تقديم أدلة مقنعة عن سبب كل هذا التعاطف فسيظل ريان أيقونة على حد تعبير منظمة اليونيسف لما كتبت في تعزيتها للطفل (فليرقد في سلام. إنه اليوم، أيقونة جديدة للطفولة في المغرب وخارجه… ومن واجبنا، احتراما لذكرى ريان، أن نبذل قصارى جهدنا حتى ينعم جميع الأطفال في العالم بحماية أفضل وتكون حقوقهم في الحياة والبقاء والنمو مصونة بشكل أحسن).