كنت في سن السابعة من العمر حينما وطأت قدامي عتبة المدرسة لأول مرة، لأجد في استقبالي “المديرالسيتي”. رجل مفتون بالإدارة، يمشي بسرعة البرق، يلوح بيده اليمنى واليسرى داعياً كل تلاميذالمدرسة لـ”مثنى مثنى” في الساحة أو قرب القسم. لا يعرف المزاح ولا الضحك، ويلزم الجميعبالانضباط واحترام الوقت وإجبارية الهندام.
الحديث عن “المدير السيتي”، هو استحضار لذاكرة مشتركة بين بنات وأبناء منطقة جبالة بني زروال،الذين عند قراءتهم لهذا النص سيتذكرون أيام “مدرستي الحلوة”، لكي لا ينسوا تاريخهم وجذورهم، ولكييستحضروا الماضي في علاقته بالحاضر المهين للقيم وللمدرسة وللعائلة وللدولة والوطن.
لم نكن نئن من قساوة أحوال الطقس، ولا من انعدام حطب التدفئة والألبسة الشتوية، ولم نكن نشتكيغياب النقل المدرسي، كنا نذهب للمدرسة محررين من العقد ومن التمييز الطبقي والجنسي.
لم نكن نفرق بين المعرفة السائدة وبين الفقه وبين قواعد المنهج العلمي، وبين تملك المنطلقات الأوليةللعلوم بكل أصنافها، كنا نعشق المدرسة باعتبارها حاضنة بنات وأبناء الشعب.
كان ذلك في أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، وللتاريخ دلالته. يوم كانت المدرسة لاتنتج فقط أطر الإدارة، بل كانت مشتلا لخلق الإرادة والجواهر الخالدة، وتضطلع بمسؤولية إنتاج النخبحتى وإن كانت معارضة للدولة.
واليوم؟ لدينا مجلس أعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، نؤدي ثمن وجوده من مالنا الخاص، ليعقددورته العاشرة على إيقاع سمفونية الفزع، تقضي بإلغاء مجانية التعليم وخوصصته، للإجهاز على ماتبقى من وطنية الدولة وما يربطها بحقوق الشعب الدستورية وعلى رأسها الحق في التعليم كحق مقدس.
هادْشِي عِيبْ وعارْ. لو كان مازال بيننا “المدير السيتي” لهاجم عمر عزيمان في بيته وإعتصم أمام بيتبنكيران ووزير تعليمه ضد مشروع القانون الإطار لإصلاح المنظومة التربوية، والذي يكرس اختياراتلا شعبية تضرب في العمق المساواة بين المواطنين، وتعمق الهوة الطبقية بين المدينة والقرية، وبين كلالطبقات والشرائح الاجتماعية ببلادنا.
وْشكُونْ الرابَحْ؟، طبعاً من يتباهى بالسلوك الحسن لصندوق النقد الدولي، ومن يُطبل ويُزمر للتدخلالمتوحش للدولة في كل المجالات والقطاعات، ومن يجعل من الاهتمام بترشيد حالة التدين ببلادنا همهالأساسي، متناسياً أن المدرسة التي بنى أعمدتها “المدير السيتي” وأمثاله باتت مصنعا لإنتاج التيارالجهادي، ومشتلا للداعشية، وماكينة لإعادة إنتاج الفقراء والمقهورين والمعذبون في الأرض.
إن الإحساس اليوم بالإجهاز على ما تبقى من كل شيء، هو نفس الإحساس الذي راود أبناء الشعبالمغلوب على أمرهم منذ أن تربص بنا “بلعباس” (الوزير الذي حاول ضرب مجانية التعليم في الستيناتوأدى قراره إلى إنتفاضة ماي 1965)، وظل شبحه يسكن عظامنا باستمرار لإجهاض كل من له علاقة بالمساواة والمناصفة وبالحريات.
إنها نهاية مدرسة “المدير السيتي” وبداية مدرسة من دون مدير أو معلم أو أستاذ. إنها مدرسة الحگرةوقطّاع العلم والمعرفة، وسوق المضاربة بين السماسرة الذين حولوا “مدرستي الحلوة” إلى بضاعة،وإلى بيوت ومساكن ودور لإنتاج التخلف والثقافة النكوصية من دون حسيب أو رقيب.
ورغم ذلك، لن نشيع المدرسة، ولن نعلن وفاة المعلم والأستاذ مادام التلميذ حي يرزق، والطالب يرفضالذهاب في أي جنازة أو مسلسل انهيار العلم والمعرفة.
طبعا، نشعر بالغثيان كلما جاءنا خبر إغلاق مدرسة، أو زرنا مدرسة آيلة للسقوط، أو علمنا بإغلاقمدرسة بسبب تغير أحوال الطقس وتراكم الثلوج، أو بسبب غياب الأطر التعليمية أو نقص في الحجراتالدراسية، أو…
وفي انتظار حق المغاربة جميعا في الفوسفاط والصيد البحري ومناجم “النقرة” ومقالع الرمال وغابات الأطلس، يعتبر ما يحدث اليوم ضد المدرسة جريمة يُساءلنا جميعا من دون رحمة ولا شفقة.