المحرر
خلال الأشهر والأسابيع التي قادتنا إلى الانقلاب العسكري في مصر صيف عام 2013، الذي أنهى حكم الرئيس السابق محمد مرسي، واجه المصريون العديد من المشكلات الاقتصادية الواحدة تلو الأخرى.
بات انقطاع التيار الكهربائي أمراً شائعاً، وأصبح قطاع السياحة في عداد الأموات، واختفت الاستثمارات الأجنبية، وباتت الحكومة على شفا مواجهة أزمة إفلاس. كان كل هذا يعني أن ملايين المصريين يواجهون أزماتٍ ماليةً حادةً في وقت كان يحدوهم الأمل بأن تؤدي نهاية حكم الرئيس السابق محمد حسني مبارك إلى تحقيق مطالبهم، التي عبّروا عنها في شعار “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” في ميدان التحرير منذ سنوات قليلة مضت.
كان نقص الوقود من بين أكثر الأزمات الاقتصادية المؤلمة في تلك الفترة. ففي مصر المُكدَّسة بالسيارات، زاد عدم القدرة على الحركة الطين بلةً، بالإضافة إلى الزحام المروري المُحبط المعتاد، وفقاً لما ذكر تقرير لمجلة فورين بولسي الأميركية.
ثم انتهى كل شيء. فقد اختفت أزمة اقتصادية استمرت لأشهر عديدةٍ بين ليلةٍ وضحاها. بعد أسبوع واحد فقط من الانقلاب، قال مراسلا صحيفة “نيويورك تايمز” بن هوبارد وديفيد كيركباتريك إن البنزين بات متاحاً فجأة. هل كان هذا مجرد مصادفةً أم أنه نتاج عمل مجموعة سرية متآمرة من ضباط الجيش، وعملاء المخابرات، والموظفين رفيعي المستوى في الجهاز الإداري للدولة، والذين يعرفون باسم “الدولة العميقة”؟
ليست مصر وحدها
إن فكرة الدولة العميقة ليست أمراً فريداً من نوعه في مصر. وفي واقع الأمر، إن هذا المصطلح مرتبط أكثر بالدولة التركية وبدأ في الظهور مؤخراً في الولايات المتحدة الأميركية. بالنسبة للأتراك، تأكدت الشائعات، التي أُثيرت لوقتٍ طويلٍ بشأن وجود جماعات سرية متآمرة داخل أجهزة الدولة، عندما اصطدمت سيارة من طراز مرسيدس بنز بشاحنةٍ في مدينة سوسورلوك الصغيرة، التي تقع على بعد 150 ميلاً جنوب غرب العاصمة إسطنبول، في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1996.
كان ركّاب السيارة المرسيدس عبارة عن مجموعة غريبة وغير متجانسة مكونة من نائب رئيس جهاز الشرطة في مدينة إسطنبول، وعضو بالبرلمان، وقاتل مأجور، وصديقته. لم ينج من هذه الحادثة إلا النائب البرلماني اليميني سيدات بوجاك.
أعطت الحادثة، التي عرفت باسم فضيحة سوسورلوك، فرصةً للعديد من الأتراك للحصول على نظرة خاطفة داخل الدولة التركية العميقة.
كان هناك سؤالٌ جليّ عن الأسباب التي قد تجمع بين نائب في البرلمان التركي وضابط شرطة رفيع المستوى وقاتل مأجور وتاجر مخدرات معروف يدعى عبدالله كاتلي في سيارةٍ واحدةٍ.
كان الأتراك يقدمون نصائح للمحققين الأجانب بالتفتيش عن المؤامرة الخفية بين ضباط أجهزة المخابرات، والشرطة، والجيش، بالإضافة إلى البحث في أكثر الأماكن غير المتوقعة مثل الإعلام، والجامعات، ومجتمعات رجال الأعمال.
ولم يعرف أحد الكيفية التي تعمل بها هذه المجموعات، لكن يُعتقد أنها تستغل نفوذ أجهزة الدولة التركية لدعم مصالحها على حساب بقية المجتمع.
لاقت أفكار نظرية المؤامرة، والتي تقول إن “حقيقة الأشياء ليست كما تبدو في ظاهرها”، رواجاً بين المصريين والأتراك على حدٍ سواء.
ورغم الاختلافات الموجودة بين الدولتين من حيث تكوين الجماعات السرية المتآمرة ومدى انتشار مصطلح الدولة العميقة، فإن الاعتقاد بوجود قُوى ذات نفوذ كبير وغير خاضعة للمحاسبة وتمتلك قدرة للتأثير في مسار الأحداث، نابع من ظروف متشابهة.
كيف وصل المصطلح إلى أميركا؟
لكن كيف وصل مصطلح الدولة العميقة إلى الخطاب السياسي داخل الولايات المتحدة الأميركية؟
خلال الأسابيع الأخيرة، نشرت منصات إخبارية متنوعة مثل “Breitbart”، و”Infowars”، و”the Intercept”، و”AlterNet ” أخباراً تتحدث عن الدولة العميقة الأميركية. لقد وصل هذا المصطلح إلى الولايات المتحدة، على الأغلب، بنفس الطريقة التي وصل بها إلى مصر عن طريق الأشخاص الذين يسعون جاهدين إلى فهم الأحداث الجارية في دولٍ بها هذا القدر من الاختلاف في التاريخ، والثقافات، والأنظمة السياسية كتركيا، ومصر، والولايات المتحدة الأميركية.
بالنسبة لمؤيدي الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإن مصطلح الدولة العميقة يمكن استخدامه ككبش فداء أو ذريعةٍ بينما تهاجم الإدارة الأميركية الصحافة والمتظاهرين وسط حالة الاستقطاب العميقة التي تشهدها البلاد والتسريبات التي تخرج من البيت الأبيض.
وهناك ما يبدو وكأنه حرب غير معلنةٍ بين ترامب وأجهزة الاستخبارات، التي أثارت جدلاً عاماً عندما زعمت تورّط مسؤولين رفيعي المستوى في نشاطات غير قانونية ربما ترقى إلى مستوى خيانة الدولة.
ووفقاً لوجهاتِ نظر معينة، يبدو أن هناك قوى داخل الأجهزة الإدارية للدولة تتواطأ مع الإعلام والديمقراطيين لإحكام الحصار حول إدارة ترامب الجديدة.
ويرى معارضو ترامب الدولة العميقة بصورةٍ مغايرةٍ تماماً، إذ يعتبرون أن هجوم ترامب على الصحافة، وجهوده لنزع الشرعية عن السلطة القضائية، والعلاقات غير المُفسّرة بين البيت الأبيض والحكومة الروسية، والجهود الحثيثة لزرع بذور عدم الاستقرار داخل الدولة، جزءٌ من خطةٍ متعددة الأبعاد، تهدف بالأساس إلى تغيّر تركيبة النظام السياسي الأميركية.
ساهم حديث بعض مستشاري الرئيس رفيعي المستوى، مثل كبير الخبراء الاستراتيجيين بالبيت الأبيض ستيفن بانون، علناً عن “هدم النظام” في تأجيج المخاوف بشأن وجود مؤامرة تُحاك بواسطة أكبر قوى الدولة لتقويض الديمقراطية الأميركية.
وبعبارةٍ أخرى، يجادل معارضو ترامب بأن الدولة الأميركية العميقة منخرطة في نشاطٍ بطيء الحركة لتنفيذ انقلاب على نظام الديمقراطية الأميركية. ويرى 40% من الأميركيين، الذين يعتقدون بأن ترامب يؤدي دوره بشكلٍ جيدٍ، أن الجدل المصاحب لشهره الأول في الحكام كان نتاجاً لجهودٍ منظمةٍ ومدبرةٍ من قبل الأجهزة الإدارية للدولة لتقويض إدارة ترامب. وقد أشار ترامب بنفسه إلى هذا المعنى خلال هجومه على أجهزة الاستخبارات والقضاء.
هناك أسباب تدفعنا إلى القلق بشأن سلامة المؤسسات القانونية والسياسية الأميركية بينما يُعرِّض الرئيس ومستشاروه هذه المؤسسات للتلاعب وإثارة الشكوك حولها علناً. ويبدو أن الرئيس لم يمعن التفكير في الكيفية التي يمكن أن تؤثر بها هذه الممارسات على مسار المستقبل السياسي للبلاد. وتحمل هذه الحقيقة تشابهاً صارخاً مع الطريقة التي يستغل بها القادة السياسيون في مصر مؤسسات الدولة للتعامل مع التحديات السياسية الآنية وتعزيز الطبيعة السلطوية للأنظمة السياسية المعنية.
يوجد وسط هذا التشابه الظاهري العديد من الاختلافات الصارخة بين طبيعة الدولة العميقة المصرية ونظيرتها الأميركية المزعومة.
في مصر، يكمن الهدف الرئيسي للدولة العميقة في الحفاظ على ما يمكن وصفه فقط بـ”النظام الطبيعي” لسياسات الدولة، ما يعني استمرار سيطرة الجيش على النظام السياسي، الذي أسسه الرئيس السابق جمال عبدالناصر والضباط الأحرار في خمسينات القرن الماضي. كان المصريون أكثر نجاحاً في تحقيق هذا الهدف من الأتراك، الذين لجأوا إلى التدخلات العسكرية والعنف، في كثيرٍ من الأحيان، للحفاظ على الدولة الجمهورية العلمانية.
أما في الولايات المتحدة، فإن احتمالات وجود الدولة العميقة ضعيفة. تغيب عن إدراكنا حقيقة أن رد فعل خبراء الاستخبارات، والقضاة، ومسؤولي الحكومة خلال حالة الاستقطاب الحالية التي تشهدها البلاد مرتبطة بشكل مباشر بعدم الاحترام الذي تبديه الإدارة الجديدة تجاه مبادئ الديمقراطية الأميركية.
فبدلاً من محاولة تغيير الجمهورية الأميركية، تتحرك هذه القوى لمنع القوى الأجنبية المعادية من ابتزاز المسؤولين الأميركيين رفيعي المستوى وضمان عدم تضليل مستشار الأمن القومي لنائب رئيس الجمهورية بشكلٍ وقحٍ.
وعلى مستوى الفكرة المجردة، يقدم موظفو الجهاز الإداري الأميركي على القيام بأمورٍ مشابهةٍ لما قامت به الدولة العميقة المصرية لخدمة هدفٍ مشابهٍ وهو حماية النظام القائم. لكن لا تمتد أهدافهم إلى أبعد من هذا المستوى. ففي الحالة الأميركية، لا يحكم موظفو الجهاز الإداري للدولة ولا يرغبون في حكم النظام، الذي يحاولون حمايته.
لجأ بعض الأشخاص في البيت الأبيض، والبنتاغون، ووزارتي العدل والخارجية، والكونغرس، وأجهزة الاستخبارات إلى تسريب معلومات للصحافة لأنهم لا يملكون خياراً آخر ولا يريدون التعامل مع إدارةٍ بها مسؤولون لديهم صلات غير مُفسرة مع روسيا، ومتهمون بتعارض مصالحهم مع وظائفهم الحكومية، وبالترويج لنسخٍ مُنقحةٍ من القومية البيضاء والفاشية التي تهدد المثل العليا للديمقراطية الأميركية.
وفوق كل هذا، عبر نفس هؤلاء المسؤولين علناً عن ازدرائهم للجهاز الإداري للدولة. إن هذا الأمر أكبر من تسريبات الأعمال اليومية المعتادة في واشنطن، فقط لأن المخاطر عالية للغاية.
ولا يشير أي مما حدث في الولايات المتحدة منذ تنصيب ترامب في الحكم إلى وجود الدولة الأميركية العميقة. لقد ظهرت الفكرة لأن الأميركيين، مثل المصريين الذين يعيشون في مجتمع به حكومة غير شفافة، لم يحصلوا على تفسيرات جيدة لتغيّر الأحداث اللافت وسط مناخ سياسي مشحون يتسم بالاستقطاب الحاد داخل الولايات المتحدة، ما دفعهم إلى السعي وراء تفسيرات سهلة للأحداث وهي نظرية المؤامرة.
عن موقع “الأول”