المحرر
«إنهم يريدون خلق أجيال جديدة من الضباع»؛ هي صرخة مدوية أطلقها السوسيولوجي، الأستاذ الراحل محمد جسوس، خلال المؤتمر الوطني الرابع للطلبة الاتحاديين المنعقد بفاس، في وجه مهندسي السياسة العامة إزاء الشباب، مما أقلق القرار السياسي المركزي المتمثل، آنذاك، في الملك الراحل الحسن الثاني الذي أمر وزير التربية الوطنية، الطيب الشكليلي، على الرد على ما جاء به العرض.
وقال الراحل جسوس: «إن مستقبل المعارك التي ننادي بها في الاتحاد الاشتراكي هو مستقبل الشباب، و بالتالي مآلها هو ما يملكه هذا الشباب من إمكانات ومؤهلات على ضمان انفتاحه وازدهاره، أكثر ما يمكن، وفي هذه الحالة، يمكن لنا أن نطمئن أنفسنا على مصير معاركنا الكبرى من أجل التحرير والديمقراطية والاشتراكية، أما إذا حدث عكس ذلك، إذا كان شباب هذا البلد مهمشين، مقموعين، مكبوحين، مكبوتين، مطاردين في مختلف مرافق الحياة، فيمكننا من الآن أن نصلي صلاة الجنازة على هذه البلاد و على مستقبلها».
وأضاف جسوس، في عرضه الذي سرق النوم من العديد من المسؤولين: «إن شباب المغرب بصفة عامة أصبح يعامل من طرف المسؤولين والحاكمين ومن طرف الطبقات السائدة في هذه البلاد، كما لو كان عبئا ثقيلا، عوض أن يشكل رصيدها ورأسمالها الأساسي ،نعلن تذمرنا من معاملة الشباب كما لو كانوا مجموعة من »الفوضويين« ومجموعة من المشاغبين، ومجموعة من »العبثيين« ومجموعة من »العدميين» علما بأن أرقى واسمى ما أنجز في هذه البلاد أنجزه شباب أو ساهم في فكرته الحاسمة شباب و بصفة خاصة، إنه لا خير يرجى من بلاد بأكملها ومن نظام سياسي واقتصادي واجتماعي بأكمله، إذا كان يعتمد على سياسة التجويع والتضييع والتمقليع، إذا كان شباب هذه البلاد يعاني من تخوف مستمر حول عيشه أولا وقبل كل شيء، ويعاني في مستوى ثان من سياسة على صعيد التعليم وعلى صعيد الثقافة وعلى صعيد التأطير الفكري والإيديولوجي، تحاول خلق جيل جديد لم نعرفه في المغرب، جيل «الضبوعة» جيل من البشر ليس له حتى الحد الأدنى من الوعي بحقوقه وبواجباته، ليس له حتى الحد الأدنى من الوعي بما يحدد مصيره ومصير اخواته ومصير اقاربه ومصير جيرانه لا خير يرجى من بلاد تعامل شبابها بمختلف اشكال القمع والإكراهات والتخويف والتهريب، بل إن ما نلاحظه حاليا هو تكريس وترسيخ هذه المعاملات، فمن العار كل العار أن تصبح ثانوياتنا وكلياتنا وجامعاتنا هي بدورها تختلف عن الشارع، ان تصبح عبارة عن مكان يسوده قانون الغاب، ويعامل فيه أكبر رصيد بشري وأكبر طاقاتنا الفكرية كما كانوا اعداء، كما لو كانوا خصوما مضطهدين من طرف مختلف اجهزة الأمن, مضطهدين من طرف الإدارة، مضطهدين أحيانا من بعض الأساتذة الذين ليس لهم الوعي الكافي من العار أن نتعامل مع شبابنا كما لو كانوا فقط مصدرا للشغب ومصدرا للسيبة ومصدرا للفوضى، ومصدرا لمختلف أشكال التحطيم، من العار أن يساهم الكثير من المسؤولين في المزيد من تكريس مسلسل التجهيل والتيئيس والتهميش الذي يعاني منه حاليا شبابنا ، بحيث إننا نرى كذلك نوعا من التحالف الطبيعي بين قوى الطبيعة وهذا الظرف التاريخي، وبين الطبقات الحاكمة وبين الأجهزة المسؤولية عن الجامعة وعن الثانويات لغرس أكثر ما يمكن من اليأس ومن الخوف في وسط الشباب، لإشعارهم بأنهم شبه مجرمين» و أن عليهم أن يثبتوا براءتهم فالمبدأ الآن أصبح هو اتهام الشاب، فكل شاب يصبح متهما وعليه أن يثبت براءته، بينما نعرف أن القاعدة العامة، والقاعدة الحضارية السائدة لدى كل الشعوب المتحضرة هي العكس, أي أن المواطن برئ حتى تثبت جريمته في ميدان من الميادين».
واستعرض جسوس، في ذلك العرض الذي وصف بالقوي وغير المهادن، إلى مختلف أشكال الممارسات التي لا تزيد إلا في غرس اليأس والتيئيس وجعل الشباب، وهو لم يصل بعد حتى سن العشرين، ينظر الى الكون، وينظر في حياته وينظر إلى مجتمعه وإلى حيه والى أسرته نظرة الكهل الذي تجاوز السبعين أو الثمانين سنة، يتحدث كما لو كان مقهورا ولم يبق له أي أمل.
بينما نحن نعرف- يقول جسوس- أن الأمل ظاهرة بيولوجية قبل أن تكون ظاهرة نفسانية، أو ظاهرة اجتماعية، الأمل ظاهرة بيولوجية، لأنه من 19 أو عشرين سنة تكون أجهزتنا العصبية ومختلف مقومات جسدنا النفسية مازالت تنمو، مازال دماغنا ينمو، مازال كياننا السيكولوجي ينمو، مازالت مؤهلاتنا العاطفية ومؤهلاتنا النفسانية تتطور وتنمو، إذ لا يستكمل تكويننا إلا حوالي 19 أو 20 سنة».
وتساءل جسوس باستنكار شامل: كيف يعقل أن يكون الإنسان بما يتسم به من عقل ومن قدرة على الفكر وعلى التجاوز يسقط أمام التاريخ، يسقط أمام المصاعب، ويستسلم لها، يخضع لها، ويبدأ يساهم في غرس نوع من اليأس ونوع من الرعب والخوف على هذا المستوى وهو المستوى الأول، نحن في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نطالب بوضع حد لسياسة فرضت على الشعب المغربي منذ نهاية الخمسينات، سياسة أصبحت تعتبر الدراسة خطرا، وتعتبر التعليم وسيلة فقط لتكوين نوع من المشاغبين أو إنتاج نوع من الشباب يدخل سوق الشغل فلا يجد فيه إمكانات العمل فيتحول بسرعة إلى متمرد، الى معارض للنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي السائد في هذه البلاد ».
وأشار جسوس، في عرضه، إلى «بروز جيل جديد من الشباب يتسم بالاستسلام منذ البداية، جيل ليس له علم حتى بالحد الأدنى، من حقوق وواجبات المواطنة شباب يائس مسبقا وكل ما يطمح إليه في كثير من الأحيان هو الحصول على جواز السفر والهروب من الساحة، والهروب كذلك نحو الغربة والبحث عن لقمة عيش».
ولم يفت جسوس الحديث عن الوضع المقلق لعلاقة الشباب بالسياسة، مما يساهم في «التهميش الذاتي» الذي تمارسه بعض فئات الشباب على نفسها ونحن نقول- يتابع جسوس- «إنه لا يعقل أن نتعامل مع شباب هذا هو سلوكه من منطق التجهيل ومن منطق التعجب، إذا كان جزء من شباب المغرب اليوم يتأثر بجو اليأس والاستسلام وبالهروب من الاهتمام بقضايا البلاد الكبرى، فلأن الأوضاع جعلته كذلك ودفعت به الى هذا المستوى من اليأس والاستسلام».
وأرجع جسوس اشتداد الأزمة إلى غياب الجامعة المغربية من أي رهان جدير بتأسيس الدولة الوطنية وقال إن مكانة الجماعة تأتي «من كون ما حدث من ثورات في المجتمعات الصناعية هو تطور لم نعرف منه نحن شيئا، فالمجتمعات الصناعية المتطورة لكي تصبح كذلك مرت عبر أربع ثورات أساسية: ثورة سياسية ديمقراطية، وثورة تكنولوجية صناعية، وثورة اجتماعية قضت على بقايا الاقطاع والنظم القبلية ونظام الكنيسة، ومختلف اشكال التخلف، وثورة كذلك ثقافية وفكرية وايديولوجية، رسخت في هذه المجتمعات أفكار العقلانية والتقدم والحتمية والمادية والإيمان بالمستقبل (…) هذه الثورات الأربع حدثت في المجتمعات الصناعية عن طريق طبقة أساسية هي الطبقة البورجوازية، في ظروف كانت فيها الطبقة البورجوازية تمثل طليعة الثورة داخل هذه المجتمعات، قبل أن تتحول إلى طبقة لها امتيازات ولها مكانة تريد الحفاظ عليها، وبالتالي بدأت تنتقل من منطق ثوري الي منطق المحافظة والرجعية (…) فليس من الصدفة أن تاريخ الثورة الصناعية يقترن بتاريخ الجامعة، وأن تاريخ الثورة الصناعية هو الذي أدى إلى كل القوانين التي تسن إجبارية التعليم، هو الذي أدى الى جعل ضرورة توفر الجميع على حد أدنى من التمدرس قانونا تسنه الشعوب المتحضرة وتفرضه عل نفسها وعلى كافة الطبقات المتواجدة داخلها. وليس من الصدف أن بروز وانفتاح الجامعة ودورها قام بصفة عضوية ببروز الثورة العلمية والتكنولوجية».
وشخص جسوس الإشكال الذي تعاني منه بلادنا في كوننا «إلى الآن لم نعرف أية واحدة من الثورات الأربع، لا الثورة الديمقراطية ولا الثورة الصناعية، ولا الثورة الاجتماعية، ولا الثورة الثقافية» ، وقال إن الأمل كان معقودا في هذا المجال علي امتدادات الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير، وأنه و قع اجهاض للحركة الوطنية والمقاومة، بعد الاستقلال وقع استيلاء على السلطة السياسية وتقديمها لمن لا يستحقها ولا يتوفر على الشرعية الضرورية لذلك وبالتالي وقع اجهاض الثورة العامة التي كان المهدي بنبركة يحلم بها، عندما كان يتحدث عن المجتمع المغربي الجديد. وقع إجهاض تلك الثورة العامة وبصفة مباشرة وقع كذلك إجهاض امكانيات بروز دولة وطنية حديثة عصرية تستعمل أساليب العلم والتكنولجيا والتنظيم الجديد، وتكون في خدمة الشعب وليس الشعب في خدمة الدولة».
ووجه جسوس انتقادات لاذعة إلى كل أشكال الإصلاحات الفوقية، لأنها، حسب ما جاء به العرض، «ستبقى فوقية ولن يدافع عنها الشعب، لن يعتبرها مكتسباته، لن يتحمس من أجل تطويرها إلا إذا كانت متوفرة على هذين المبدأين» وقال إن « الجامعة هي مدرسة العرفان والبرهان والبيان، ومن جهة ثانية، مدرسة الديمقراطية والحوار والنقد الذاتي والابتكار والبحث عن الجديد (…) ولهذا، فإننا في الاتحاد الاشتراكي نقول بأن كل ما يعرقل نمو هذه الجامعة نعتبره بصفة مباشرة يهدد المصلحة العليا للبلاد، ويهدم كل آمال الشعب المغربي في التقدم والتطور. وفي هذا الباب، يثير استغرابنا الطريقة التي يتم بها التعامل مع قطاع التعليم العالي ككل، طلبة وأساتذة ومؤسسات نعتقد أننا في الوقت الذي نعرف فيه طريق تنمية محدود، فإننا نلاحظ أن هناك العديد من المؤسسات العليا التي يتم إقفالها والعديد من المؤسسات الجامعية التي لم يتم إقفالها بعد، يتم خنقها لكي يتم إقفالها مادياً في المستقبل أو لكي تقفل نفسها معنوياً، وعملياً بصفة من الصفات».
وخلص جسوس إلى أنه «ما كان لمثل هذا أن يحدث، وما كان للدور المتعاظم الذي يلعبه رجال السلطة من رجال الأمن والدرك والعمال في تسيير الكليات أن يتعاظم لو أن تلك المؤسسات كانت تتوفر على وسائل ديمقراطية تمثيلية، ولو كانت تتوفر على وسائل دعم داخلية وعلى مشروعية اتجاه الأساتذة».
أمام قوة العرض الذي ألقاه محمد جسوس، وأمام التشخيص الذي يعتبر النظام القائم معني بصناعة جيل من الضباع، وأنه الشباب المغربي مستهدف على أكثر من صعيد، ثارت ثائرة الملك الراحل الحسن الثاني، مما قاد وزير التربية الوطنية، الطيب الشكيلي، إلى محاولة الالتفاف على ما جاء في العرض، حيث خرج ببيان حقيقة على العرض، واصفا إياه بأنه يتضمن «نقل أكاذيب وأباطيل صريحة تمس بكرامة كل المواطنين وتتجرأ على اهانة الوطن والاستهتار بالتضحيات الجسيمة التي بذلت طوال ثلاثين سنة في مجالات التربية والتكوين».
وما جاء في البيان أنه لا توجد« في المغرب جامعة تعمل على تعليم اليأس ونشر الخوف» وقال: «يدعي كاتب المقال أن هناك تحالفاً طبيعياً بين قوى الطبيعة والظرفية التاريخية(؟) من جهة، وبين الطبقات الحاكمة والأجهزة المسؤولة عن الجامعة وعن الثانويات لغرس أكثر ما يمكن من اليأس والخوف في وسط الشباب وإشعارهم بأنهم شبه مجرمين ونحن نتساءل أمام هذه العبارات القادحة والطاعنة في نظام الدولة ومؤسساتها عن أي جامعة أو أي مؤسسة يتحدث عنها الكاتب، لأننا لا نعرف أن في المغرب جامعة تعمل على تعليم اليأس ونشر الخوف وإلا أين نضع هذه الأفواج الهائلة من الخريجين الجامعيين الذين كونتهم الجامعة المغربية وهم اليوم العناصر الحية والأطر التسييرية للقطاع العام والخاص الذي تعتمد عليه البلاد ويكفي أن يكون كاتب المقال بنفسه أستاذاً جامعياً ينشر أفكاره وادعاءاته المنافية للحقيقة والواقع ومهاجمة المؤسسة الجامعية التي ينتمي إليها ويمارس فيها بكل حرية نشاطه دون خوف أو اضطهاد. إن أبسط شروط اللياقة أن لا يهاجم هذا الكاتب زملاءه من الأساتذة الجامعيين قاطبة، فيجعلهم مجرد أدوات مسخرة لتجريم الطلبة وبث اليأس في نفوسهم.
لقد أثار عرض محمد جسوس، في حينه، نقاشا مستفيضا بين الأوساط الثقافية والسياسية والجامعية غير أن أيامنا الحالية كشفت أن ناقوس الخطر الذي دقه بعنف وقوة لم يكن وهما ضج في خيال الرجل، بل كان توصيفا دقيقا لنظام تعليمي يصنع أجيالا من اليائسين ،لقد ثبت بالملموس أن الدولة كانت أخذة في إقامة صلاة الجنازة على مستقبل البلاد، ما دامت كانت تسخر كل إمكاناتها من أجل الحصول على شباب مهمش مقموع، مكبوحين، مكبوت، مطارد في مختلف مرافق الحياة».
عن صحيفةالاتحاد الاشتراكي