مقدمة
تشكل الأحزاب السياسية المحور الأساسي في العملية الديمقراطية، فبدون أحزاب سياسية لا يمكن الحديث عن وجود ديمقراطية مهما كان، “لا ديمقراطية بدون أحزاب سياسية”، وإذا كان وجود الديمقراطية رهيناً بوجود أحزاب سياسية فإن الوظيفة الحزبية المتمثلة في ممارسة السلطة السياسية أو السعي لممارستها، لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل الديمقراطية التي من دونها تستحيل الممارسة الحزبية.
فالحزب عندما يطالب بالديمقراطية، يكون ملزما بممارستها داخل هياكله التنظيمية، وهذا هو الشق الغائب في الممارسة الحزبية المغربية، أي تغييب الفعل الديمقراطي في الحياة الداخلية للحزب. ففي ظل غياب المد الديمقراطي على مستوى الممارسة الحزبية، ينتقل معها الفعل الحزبي إلى ممارسة مصلحية تسعى إلى المناصب والمراكز، وتبتغي المواقع دون أن يكون لذلك أي تأثير إيجابي يرتقي بالفعل السياسي، ويساهم في تجويد العمل الحزبي السياسي. وعلى حد تعبير ماكس فيبر “يصبح الحزب هيئة لتوزيع الغنائم“.
وفي ضوء ذلك قمنا بصياغة مشكلة المقال في السؤال الرئيسي التالي: أي تفسير لأزمة الأحزاب السياسية بالمغرب؟
(1) ضعف الديمقراطية الداخلية وانسداد تنظيمي
تتميز الأحزاب المغربية بانسداد بنيتها التنظيمية، وعدم انفتاحها على القواعد وعلى النقاشات الداخلية، وهذا ما أدى إلى تعطيل العقل السياسي المؤطر للفعل الحزبي، خاصة وأن جل الأحزاب السياسية المغربية تعتبر المبادئ الديمقراطية في الحياة الداخلية للأحزاب مسألة ثانوية لا طائل من ورائها، ولا تلزم ولا تفيد بشيء.
أكيد أن الحزب السياسي ليس فضاء مفتوحاً للنقاش، فهذا لا يختلف فيه اثنان، بل هو تنظيم سياسي مؤسس على مبدأ مركزية الديمقراطية كأسلوب تنظيمي يتمثل بالقواعد والأحكام، والذي يخول للقيادة الحزبية صلاحية صنع القرار، بعد مناقشته وتداوله مع أعضاء الحزب.
إلا أنه ومن أجل توسيع قواعد الحزب وتقويته وتطوير فكره، لا بد من إطلاق سيرورة الاختلاف داخل هياكله، وذلك من أجل احتضان وتبني كل التيارات والتوجهات بمختلف تلويناتها داخل الحزب، ويؤسس بذلك لثقافة إدارة الاختلاف المنتج والاعتراف بشرعية الاجتهاد، وهذا يتطلب بنية تنظيمية منفتحة تنطلق من أسفل الهرم اي من قواعد الحزب، وتتجلى معالم هذه البنية في عملية ممارسة الانتخابات الداخلية، فغياب الانتخابات الداخلية، وطغيان روح الهيمنة، وضعف تقاليد المساءلة وعدم اطلاع القواعد على ما يجري داخل الحزب، تتحول معه بنية الحزب التنظيمية إلى دوائر مغلقة تنتج سلوكاً سياسياً يؤدي غريباً عن العمل السياسي، حيث يؤدي الى تشويه صورة الفعل الحزبي والفاعل الحزبي.
(2) بنيات المؤتمرات الحزبية لا تتناغم مع الديمقراطية الداخلية
من أهم تجليات الأزمة داخل الأحزاب السياسية المغربية، هو افراغ المؤتمرات الوطنية والإقليمية من معناها الحقيقي، فعوض أن تشكل بنيات المؤتمرات الحزبية إطارا لتجسيد الديمقراطية الداخلية وتقوية البنيات التنظيمية للأحزاب السياسية، فقد تحولت إلى مهرجانات خطابية يغلب عليها طابع الطقوس الاحتفالية مع العلم أن الحزب يستمد شرعيته الوجودية ومشروعيته الديمقراطية من شرعية المؤتمر الوطني، التي يتكون من مؤتمرين انتدبهم الأجهزة الاقليمية ومنحتهم سلطة التقرير.
حيث تسمو قراراته فوق أي قرارات أخرى باعتباره أعلى سلطة تقريرية والمرجع الأساس والموجه الرئيسي لخط سير الحزب للأسف الشديد قد تم تغييب كل هذا، وحلت محله ثقافة الزعيم، واختزلت كل الصلاحيات في نتاج السلطة التقديرية لرئيس الحزب وأصبحت الأحزاب السياسية تعتمد على الاختيار والتعيين من الأعلى، وغالباً ما يقوم بهذا الاختيار أو التعيين رئيس الحزب، وبالتالي يتقرر عمل الحزب في ضوء ما يقرره رئيس الحزب، وليس ما يقرره الرأي الجمعي (العقل الجمعي) من خلال آلية الديمقراطية.
فيتم تغييب الأخذ بأسلوب الانتخابات الداخلية كأحد المعايير الديمقراطية في البناء التنظيمي للأحزاب وكآلية تساهم في اعادة البناء والتجديد داخل الحزب لتتاح الفرصة للوجوه الجديدة للصعود وممارسة العمل السياسي لتعيش الأحزاب حالة الاستمرار في منطق الزعامة وإنتاج وإعادة إنتاج نموذج “الشيخ والمريد”، في غياب أو تغييب القاعدة الحزبية، وسلبها من أي دور في صياغة القرار.
(3) الهاجس الانتخابي وضعف التنظيم
جل الأحزاب السياسية المغربية ما تزال تعاني ضعفاً تنظيمياً وشللاً واضحاً على مستوى التنظيم، كما تعاني من ضعف الوظيفة التأطيرية، وغياب شبه كلي لقنوات اتصال تمكن قواعد الحزب من إبلاغ صوتها للقيادة الحزبية، حيث أن أغلب لقاءات القيادات بالقواعد هي لقاءات مناسباتية تكتسي في أغلبها طابع مهرجانات خطابية.
كما أن هذه الأحزاب لا تسعى إلى تغيير هيكلتها وأسلوبها وأدواتها وتجديد مناهجها من أجل استيعاب المستجدات ومواجهة مقتضيات التطور. فتجدها تصر على الاستمرار في تغييب مكانة الفكر العميق والمتبصر في الحياة الحزبية، وفي مقابل تغليب الهاجس الانتخابي المتحكم في اشتغال الحزب، وذلك في غياب أدنى شروط العمل السياسي، وهذا ما أدى إلى تمييع الفعل السياسي وإفراغه من محتواه، مما حول معه الأحزاب السياسية إلى “ماكينات” انتخابية متمرسة في العملية هممها والوحيد هو كيفية الفوز في الانتخابات بأي ثمن وبأقصر الطرق.
وبالتالي، اصطياد مرشحين لا وجود لهم إلا من خلال ما يملكون من مال ونفوذ وريع؛ وهذا ما أدى إلى تدفق تجار الانتخابات والفئات غير المتعلمة أو قليلة المعارف، إذ أصبح المال من أهم مؤثثات المشهد الحزبي والانتخابي.
وهذا الوضع الذي أفسد العمل الحزبي وأفرغه من مضمونه الأخلاقي والمدني، مما أدى إلى الجمود الفكري وضعف التثقيف والاعتماد على الحشد السريع والموالين. وبهذا تتحمل الأحزاب السياسية مسؤولية تدني الفعل السياسي وعن أزمة السياسة من خلال نفور قطاعات شعبية واسعة منها أو من المشاركة في الانتخابات.
(4) على سبيل الختم
تشكل الديمقراطية إحدى الركائز الأساسية للتنظيمات الحزبية، حيث إن اعتماد هذه الآلية يساهم في تقوية البنية التنظيمية للأحزاب السياسية. غير أن ما يلاحظ هو غياب الديمقراطية في أغلب التنظيمات الحزبية، بالرغم من أن جل الأحزاب تؤكد في أدبياتها على الخيار الديمقراطي، إلا أن معظمها لا تمارس بين صفوفها ديمقراطية داخلية، إذ تحولت إلى تنظيمات غير ديمقراطية، رغم كل ما تتخفى وراءه من شعارات تؤكد تمسكها بالديمقراطية نهجا وتنظيماً.
وهكذا يتجلى ضعف الديمقراطية داخل التنظيمات الحزبية في انغلاق بنياتها التنظيمية وعدم الانفتاح على النقاشات الداخلية، ومحدودية التواصل مع القواعد الحزبية. مما انعكس على القدرة التأطيرية والتعبوية للأحزاب السياسية، وبالتالي ضعف قواعدها وامتداداتها الجماهيرية.
يحي الصغيري
أستاذ علم الاجتماع السياسي