بقلم: امحمد لقمــاني
لمّا كانت الأصولية تعني العودة إلى الأصول في تمثلٍ مقلوبٍ لمنطق التاريخ، فإن الأصالة، على خلاف ذلك، تتوخى العودة إلى الذات الفاعلة في التاريخ وتحريرها من أوهام الإيديولوجيا وسطوة الديـن وعنف السياسة.
الأصولية أصوليات، دينية، يسارية، علمانية، عرقية…، وكل ما يدخل في حكم تقديس الأصل والنص والسلف والتاريخ والإيديولوجيا، واعتبارها مفتاحا للعقـد، وطريقا الخلاص، وتنفيسا عن احتقان، و جوابا سلفيا على انسداد الأفـق.
الأصولية فكر إطلاقي مقفل على حقائق الماضي المقدس ومشدود إلى أمجاد الأجداد والسلف الصالح وأساطير الأولين. إنه فكر عاجز عن البناء والتمكين، مصاب برهاب الحاضر و حيرة المستقبل، وممتنع عن النسبية و النقد والتعايش و التثاقف والتحاور والانفتاح. وهذه القيم الإنسانية الممتنعة عن الفكر الأصولي، تجد لها، على العكس، في الأصالة المغربية موقع الارتكاز ومقام التكوين بعد أن تراكمت على مر التاريخ المغربي، وتكاثفت عناصرها الحضارية حتى صارت حاكمة لأنماط السلوك و التفكير و شكلت أسسا لبنيات مجتمعية و عنوانا للشخصية المغربية المتفردة.
وليس الدين باستثناء عن هذا الفسيفساء القيمي و الحضاري. فالمغاربة الذين آمنوا بالدين الإسلامي الحنيف لم يتبرموا منه يوما ، كما لم يجعلوه على امتداد تاريخهم مدعاة للنيل من الديانات السماوية المغايرة أو منطلقا لتكفير بعضهم البعض، بل جعلوه سندا للتضامن والتكافل في أساس البنيات الاجتماعية ودرعا للاستقلال الوطني ومحاربة الأطماع الاستعمارية.
غير أن انتشار النزعات الدينية الأصولية، تطرح العديد من الأسئلة المرتبطة بواقع الانحرافات التي باتت تخترق حقل الإسلام المغربي كما عاشه المغاربة على مر العصور، ومنها الانحرافات التي مست فضيلة التعايش الديني وحرية المعتقد، فضلا عن التشوهات التي طالت أشكال التدين في بلادنا من حيث تمثل قيم الدين واستيعاب تحولات المجتمع.
ولأن الأصالة المغربية تقرّ للإسلام بدوره التوحيدي و الوطني، فالأصولية، على النقيض، تجعل منه عامل فتنة وتفرقة وانقسام. لذلك، لا غرابة أن تحاول الأصولية استيعاب الخصوصية المغربية ضمن التأويل الديني للأصالة نفسها، واختزال كامل حمولتها التاريخية والقيمية والثقافية والسياسية في الخصوصية الدينية دون سواها بما تفيض به الذاكرة الجمعية للمغاربة.
ويعود الفضل لبروز هذا الوعي بالذات، إلى اليقظة الثقافية و العلمية المسلحة بالفكر التاريخي لجيل جديد من الباحثين والدارسين المغاربة ممن انتبهوا إلى الإمكانية التاريخية لتحرير القدرات الخلاقة والمبدعة للذات المغربية الأصيلة لتنهض بأدوار التقدم و مهام التحديث والتنمية. وهي الأبحاث التي عرّت محاولات طمس الهوية المغربية الجامعة و كشفت هول التلاعبات بوقائع التاريخ المغربي، حتى صارت جزء من الوعي الجماعي الزائف، تواطئ على نشره وتكريسه فاعلون ومؤسسات، وسخرت لذلك آليات إيديولوجية وتربوية بدء من الكتاب المدرسي إلى الإعلام العمومي إلى المسجد السياسي.
ولن نستثني من هذه» التواطئات << المؤرخون والمثقفون من دعاة الدين والحداثة على السواء، ممن كرسوا جل جهودهم البحثية المضنية في النبش في التراث العربي الإسلامي، والإيديولوجيا العربية المعاصرة، وإشكالات العقل العربي. وحده التراث المغربي والعقل السياسي المغربي والتاريخ المغربي، كان ممتنعا عن البحث الانتروبولوجي والاستقصاء التاريخي. أفلا يعني احتضان أمازيغ المغرب للهاربين من بطش الخليفة شيء في أصالة هذا الشعب ؟ أليس يكفي القول أن المغرب الأقصى، لوحده دون سواه، استعصى على اجتياح الجيوش العثمانية ؟ أليس في تاريخ المغرب أمجاد وبطولات غير تلك المدسوسة في الكتاب المدرسي ؟ أليس في تاريخنا الحديث والمعاصر تجارب رائدة لتوحيد الجماعة الوطنية و بناء الدولة الدستورية الحديثة كتلك التي دشنها محمد بن عبد الكريم الخطابي ؟ ألا يمكن قراءة تاريخ المغرب وأصالة شعبه إلا وهو مشدود إلى المشرق العربي مثلا ؟
لقد كان المغرب السياسي، على امتداد تاريخه، عنوانا للانفتاح و التعدد، و موضوعا لمختلف أنواع التفاعلات والتأثيرات مع محيطه القاري والعربي والمتوسطي والأوروبي. فدرجة التفاعل مع الأزمات و الأطماع الخارجية و القضايا التي طرحت على بلادنا، ساهمت في بصم سلوك النخبة السياسية و أثرها في تشكل بنية العقل السياسي المغربي، كعقل يقبل التعـدد والتفاعل من التجارب السياسية المتنوعة و استلهام فضائل المشاريع المجتمعية التي انجذب إليها المغاربة في فترات كثيرة من تاريخهم السياسي.
ليس هناك، إذن، ما يمنع القول بوجود إمكانية تاريخية لبناء نموذج ديمقراطي مغربي، يزاوج بين أصالة نظامه السياسي الذي بوء الملكية دورا محوريا في النسق السياسي المغربي، و حاجة هذا النظام بالذات إلى تجديد وتحديث مشروعياته في مسعاه الدائم إلى العصرنة والمأسسة والدمقرطة والتحديث.
وبعد، من الصعب، والحالة هذه، الجزم بوجود تنازع في الهوية و المشروعية. فالمغاربة، على ما يبدو، حسموا الجدل تاريخيا ودستوريا بين الأصالة الحداثية و الأصولية المدمرة.