المقاولة المغربية: لا توازن اجتماعي في غياب عدالة اجتماعية ولا مساواة في ظل انتشار التمييز بين الأجراء (1/3)

 

بقلم: ذ. محمد المعاشي

كثُر الحديث عن حقوق الإنسان داخل المقاولة، من خلال توفير حماية خاصة لفئة الأجراء، علما أن الأجير هو إنسانا قبل كل شيء، وقد ذهب البعض إلى حد اعتبار أن قانون الشغل هو الأرضية المناسبة لاختبار حقوق الإنسان( ).

وفي ظل التطور التكنولوجي الذي عرفه عالم الشغل، برزت فكرة الحقوق الأساسية للأجراء التي تجد مصدرها في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهذا التطور قد يهدد مبدأ استقرار الشغل بالنسبة للعديد من أنواع الأجراء، وبالتالي ضرورة احترام الحقوق الأساسية للأجراء من طرف جميع الدول كحد أدنى يساهم في التنمية الاجتماعية، الشيء الذي استرعى اهتمام منظمة العمل الدولية، فأولت أهمية وعناية كبيرة لهذه الفئة الاجتماعية من الأجراء، قصد تحسين ظروف عيشها، وتلبية متطلباتها الاجتماعية والاقتصادية.

والمغرب( ) دأب منذ الاستقلال على الانخراط في المنظومة الكونية لحقوق الإنسان، وذلك بالانضمام والمصادقة على عديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية( )، باعتبار أن الاتفاقيات الدولية لها مكانة خاصة في الدستور المغربي، والذي جعلها بعد المصادقة عليها، تسمو فوق التشريعات الوطنية، والعمل على ملائمة هذه التشريعات مع ما تتطلب تلك المصادقة.
ويعتبر مبدأ “سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية” الذي نص عليه لأول مرة، تقدما دستوريا في تاريخ المغرب.
أما المختصون بقانون الشغل بالمغرب، فلم يهتموا بنظرية حقوق الإنسان داخل المقاولة إلا في العقد الثامن من القرن الماضي( )، حيث أن مشرع المدونة لم يساير هذا التوجه بالمصادقة على جل الاتفاقيات المتعلقة بالحقوق الأساسية، كي يتسنى له تضمينها في صلب مقتضيات المدونة وتكريسها. وتبرز مكانة الحقوق الأساسية في ظل مدونة الشغل، من خلال ما جاء في التصدير والديباجة.

وإذا كان من الشروط الأساسية لتحقيق التنمية الاجتماعية هو ضمان الحقوق الأساسية بين الأجراء، فإن حق المساواة أو عدم التمييز بين الأجراء يعتبر من أهم تلك الحقوق، حيث يهم جل الأجراء من جهة، ومن جهة أخرى يعتمد على أساس معايير مختلفة، تهم الجنس والسن والعقيدة واللون والانتماء السياسي والنقابي والأصل الوطني والأصل الاجتماعي الخ…، وقد ركزت عليها العديد من التوصيات والاتفاقيات لمنظمة العمل الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، قبل آن يتبناها التشريع الوطني ومختلف تشريعات الدول المتقدمة.

فضلا عن ذلك، إن مبدأ الحق في المساواة أو عدم التمييز بين الأجراء يساهم في تحقيق التوازن الاجتماعي بالمقاولة، وهذا التوازن هو نتيجة تحقيق العدالة الاجتماعية بين الاجراء.
إذاً، ماذا لو تم تغييب مبدأ الحق في المساواة وترتب عنه إنتشار التمييز بين الأجراء بالمقاولة؟ ثم كذلك، هل لإنتشار التمييز بين الأجراء آثار على تحقيق العدالة الاجتماعية؟

هذا ما سنحاول الايجابة عليه من خلال هذا المقال الذي ستناول في 3 أجزاء:
 جزء الأول: مبدأ الحق في المساواة بين الأجراء في ظل التشريع الدولي والعربي والوطني؛
 جزء الثاني: إنعدام مبدأ المساواة وانتشار التمييز بين الأجراء داخل المقاولة؛
 جزء الثالث: التمييز بين الأجراء و آثاره على تحقيق العدالة الاجتماعية بالمقاولة.

الجزء الأول:
مبدأ المساواة بين الأجراء في ظل التشريع الدولي والعربي والمغربي

أولى المشرع على اختلاف مستوياته، الدولية والعربية والوطنية، لمحاربة التمييز أهمية خاصة، تجلت في العديد من النصوص والتشريعات ذات العلاقة، حيث وضعت هذه التشريعات مبدأ حماية الأجراء في صلب الموضوع، من أجل تحقيق مبدأ المساواة ومنع التمييز بمختلف أنواعه، باعتبار أن جميع الأشخاص متساوون في التمتع بالحقوق وممارسة الحريات.

1- مبدأ المساواة في ظل التشريع الدولي
إن الدفاع عن مبدأ المساواة ومحاربة التمييز يعد من أهم مبادئ الأساسية لمنظمة العمل الدولية منذ نشأتها سنة 1919، وجاء إعلان فيلادلفيا الخاص بأهداف ومقاصد المنظمة الصادر في 10 ماي 1944، لينص في مادته الثانية على أن ((لجميع البشر أيا كان عرقهم أو معتقداتهم أو جنسهم، الحق في الشغل من أجل رفاهيتهم المادية وتقدمهم الروحي في ظروف توفر لهم الحرية والكرامة والأمن الاقتصادي وتكافئ الفرص))، وقد تلا هذا الإعلان، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في سنة 1948، ليؤكد في نص المادة السابعة( ) على أن ((الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دون تمييز، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز)).
كما جاءت منظمة العمل الدولية سنة 1951 لتكرس وتؤكد على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة من خلال إصدارها للاتفاقية رقم 100( )، المتعلقة بمساواة العمال والعاملات في الأجر عن العمل ذي قيمة متساوية( )، حيث عرفت الاتفاقية مفهوم الأجر من خلال المادة الأولى على أنه (( أ- يشمل تعبير “أجر” الأجر أو المرتب العادي، الأساسي أو الأدنى، وجميع التعويضات الأخرى، التي يدفعها صاحب العمل للعمال بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نقدا أو عينا، مقابل استخدامه له؛
ب- تشير عبارة “مساواة العمال والعاملات في الأجر عن عمل ذي قيمة متساوية” إلي معدلات الأجور المحددة دون تمييز قائم على الجنس)).
وترسي هذه الاتفاقية مبدأ عاما على الدول الأعضاء في المنظمة، على أن تعمل على كفالة تطبيق مبدأ مساواة بين العمال والعاملات في الأجر عن عمل ذي قيمة متساوية يشمل جميع العاملين، وأن تضمن حسن تنفيذ هذا التطبيق، حيث نصت المادة الثانية من هذه الاتفاقية على أنه ((1- تشجع كل دولة عضو، بوسائل تتلاءم مع الأساليب السائدة في تحديد معدلات الأجور، علي كفالة تطبيق مبدأ مساواة العمال والعاملات في الأجر عن عمل ذي قيمة العمل يعم جميع العاملين، وأن تتضمن تطبيق هذا المبدأ في حدود عدم تعارضه مع تلك الأساليب.
2- يجوز تطبيق هذا المبدأ عن طريق:
أ- القوانين أو الأنظمة الوطنية،
ب- أي نظام قانوني لتحديد الأجور يقرره القانون أو يعترف به؛
ج- الاتفاقات الجماعية بين أصحاب العمل أو العمال؛
د- أي مزيج من هذه الوسائل)).

تعد الاتفاقية رقم 100 بداية تأكيد معايير العمل الدولية على مبدأ المساواة في الأجور بين المرأة والرجل، وقد ألحقت بهذه الاتفاقية التوصية رقم 90 والخاصة بمساواة العمال والعاملات في الأجر عن عمل ذي قيمة متساوية، والتي نصت على أن تقوم الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية باتخاذ الإجراءات المناسبة لضمان تطبيق مبدأ المساواة بين العمال والعاملات في الأجر عن عمل ذي قيمة متساوية.
غير أن منظمة العمل الدولية حتى وإن كانت لا تملك سلطة إلزام دول الأعضاء بتطبيق النصوص التي تقررها بشأن الاتفاقيات والتوصيات، فإنها مع ذلك تساهم في تنمية التشريع الداخلي لهذه الدول، حتى أصبح لهذه المنظمة تأثير فعال على تطور القانون الاجتماعي الدولي( ).

2- مبدأ المساواة على مستوى التشريع العربي
على مستوى التشريع العربي فإننا سنقف أكثر على الميثاق العربي لحقوق الإنسان، الذي أكد صراحة على مبدأ المساواة وعدم التمييز في المعاملة، عكس الميثاق العربي للعمل، وكذا دستور منظمة العمل العربية، اللذان لم يؤكدان صراحة على المبدأ، بقدر ما هي نصوص عامة وعبارات فضفاضة( ).

وبرجوعنا للميثاق العربي لحقوق الإنسان( ) نجده قد حدد مجموعة من الأهداف، ويأتي في مقدمتها حسب ما نصت عليها المادة الأولى من هذا الميثاق على أن ((وضع حقوق الإنسان في الدول العربية ضمن الاهتمامات الوطنية الأساسية التي تجعل من حقوق الإنسان مثلاً سامية وأساسية توجه إرادة الإنسان في الدول العربية وتمكنه من الارتقاء نحو الأفضل وفقاً لما ترتضيه القيم الإنسانية النبيلة … إعداد الأجيال في الدول العربية لحياة حرة مسئولة في مجتمع مدني متضامن وقائم على التلازم بين الوعي بالحقوق والالتزام بالواجبات وتسوده قيم المساواة والتسامح والاعتدال))، كما يضع الميثاق جميع الأشخاص متساوون أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحمايته من دون تمييز (المادة 11).
ومن أهم الحقوق التي حددها الميثاق( ): هو الحق في المساواة وعدم التمييز بين الأفراد أو بين الرجال والنساء، والحق في الحياة، والحق في الحرية والأمان، والحق في الملكية الخاصة، والحق في الخصوصية، ومنع الاسترقاق والاستعباد،واحترام الكرامة الإنسانية، والحق في الاعتراف للشخص بشخصيته القانونية، الحق في التنمية والمشاركة والإسهام في تحقيق هذه التنمية والتمتع بميزاتها وثمارها، والحق في المشاركة في الحياة الثقافية، وحرية الفكر والعقيدة والدين وحرية الرأي والتعبير والحق في الإعلام، والحق في العمل، ومنع التمييز بين الرجل والمرأة، والحق في حرية تكوين الجمعيات أو النقابات المهنية والانضمام إليها، والحق في الإضراب، والحق في مستوى معيشي كافل للعامل ولأسرته يوفر الرفاهية والعيش الكريم، والحق في الضمان الاجتماعي والتأمين الاجتماعي والرعاية الصحية.
يشار إلى أن هذا الميثاق يعبر عن الرؤية الجديدة و المتفتحة لحقوق الإنسان في منظومة الدولة العربية، بعد أن تم تعديل الميثاق السابق( ) لسنة 1997.

كما كرست الاتفاقية العربية رقم 6 لسنة 1976 بشأن مستويات العمل “معدلة”، مبدأ المساواة بين المرأة والرجل في الأجور متى تماثلت أوضاع عملهم، حيث نصت المادة 42 من هذه الاتفاقية صراحة على أنه (( تمنح المرأة العاملة الأجر المماثل لأجر الرجل، وذلك عند تماثل العمل))، وبذلك تشترك معايير العمل العربية مع معايير العمل الدولية في إقرار مبدأ المساواة في الأجور بين العمال والعاملات، وذلك حرصاً على منع التمييز ضد المرأة فيما يتعلق بالأجر الذي تحصل عليه مقارنة بالأجر الذي يحصل عليه العامل متى تماثلت أوضاع عملهما( ).

3- مبدأ المساواة في ظل التشريع المغربي
مبدأ المساواة يجد أصله كمبدأ قانوني في ظل التشريع المغربي، فدستور المملكة يعتبر جميع الأشخاص ذاتيين أو اعتباريين سواسية أمام القانون وملزمون بالامتثال له، حيث نص الفصل 6 من الدستور على أن ((القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع، أشخاصا ذاتيين واعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له))، كما أقر الدستور بمبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والحريات، حيث نص الفصل 19 على أنه ((يتمتع الرجل والمرأة على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى وكذا الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها)).

وبما أن تشريع العمل تتحدد معالمه من مبادئ الأساسية التي يحددها الدستور، وبتطابقه مع المعايير العالمية، فإن مدونة الشغل أكدت على مبدأ المساواة انطلاقا من الديباجة، وذلك لمحاولة سد ثغرات التشريع السابق الذي تجاهل مبدأ المساواة، وكذا لإتفاقيات منظمة العمل الدولية في الموضوع، حيث جاء في ديباجة المدونة ((تشمل الحقوق التي يصونها هذا القانون ويضمن ممارستها داخل المقاولة وخارجها، الحقوق الواردة في اتفاقيات العمل الدولية المصادق عليها من جهة، ومن جهة أخرى، الحقوق التي تقرها الاتفاقيات الأساسية لمنظمة العمل الدولية التي تتضمن بالخصوص :
– الحرية النقابية والإقرار الفعلي لحق التنظيم والمفاوضة الجماعية؛
– منع كل أشكال العمل الإجباري؛
– القضاء الفعلي على تشغيل الأطفال؛
– منع التمييز في مجال التشغيل والمهن؛
– المساواة في الأجر)).
فضلا عن ذلك، ورد في ديباجة المدونة على أنه ((تطبق مقتضيات هذا القانون في كل أرجاء التراب الوطني وبدون تمييز بين الأجراء يقوم على أساس السلالة أو اللون أو الجنس أو الإعاقة أو الحالة الزوجية أو العقيدة أو الرأي السياسي أو الانتماء النقابي أو الأصل الوطني أو الأصل الاجتماعي)).
ومن أهم المقتضيات القانونية الواردة في مدونة الشغل والمتناولة لمبدأ المساواة وعدم التمييز، نذكر منها المادة 36 التي نصت على أنه ((لا تعد الأمور التالية من المبررات المقبولة لاتخاذ العقوبات التأديبية أو للفصل من الشغل :
1 – الانتماء النقابي أو ممارسة مهمة الممثل النقابي؛
2 – المساهمة في أنشطة نقابية خارج أوقات الشغل، أو أثناء تلك الأوقات، برضى المشغل أو عملا بمقتضيات اتفاقية الشغل الجماعية أو النظام الداخلي؛
3 – طلب الترشيح لممارسة مهمة مندوب الأجراء، أو ممارسة هذه المهمة، أو ممارستها سابقا؛
4 – تقديم شكوى ضد المشغل، أو المشاركة في دعاوى ضده، في نطاق تطبيق مقتضيات هذا القانون؛
5 – العرق، أو اللون، أو الجنس، أو الحالة الزوجية، أو المسؤوليات العائلية، أو العقيدة، أو الرأي السياسي، أو الأصل الوطني، أو الأصل الاجتماعي؛
6 – الإعاقة، إذا لم يكن من شأنها أن تحول دون أداء الأجير المعاق لشغل يناسبه داخل المقاولة)).

وحرصا من مشرع مدونة الشغل على تكريس مبدأ المساواة في الأجر بين الجنسين، وملاءمته مع الاتفاقية رقم 100، فقد نصت المادة 346 من المدونة على أنه ((يمنع كل تمييز في الأجر بين الجنسين، إذا تساوت قيمة الشغل الذي يؤديانه)).

ويبقى التساؤل الوارد في هذا الشأن هو: ما هي المعايير الواجب اعتمادها لقياس قيمة العمل حتى يتسنى التطبيق الفعلي لمبدأ المساواة في الأجر بين الجنسين كلما تساوت فيه العمل؟
وللإشارة فإن المشرع المغربي كان أكثر جرأة من المشرع العربي في إطار المنظمة العربية الذي قرر في هذا المجال المساواة في الأجر بين الرجل والمرأة عند تماثل العمل وليس عن قيمة العمل(المادة 42 من الاتفاقية العربية رقم 6 )، مما يعطي لمدونة الشغل المغربية (المادة 346) تقدما كبيرا وتطوراً يوازي المعايير الدولية للعمل (المادة الثانية من الاتفاقية رقم 100).

لكن ماذا لو إنعدم مبدأ المساواة وانتشر التمييز بين الأجراء بالمقاولة؟
هذا ما سنتناوله في الجزء الثاني المقبل.
الرباط في 18 يوليوز 2016

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد