بقلم: محمد الحجيرة
في مثل هذه اللحظات، تتعانق الأفكار وتزدحم العبارات لتعبّر عمّا يختلج في قلوب أبناء هذه المنطقة الجبلية النائية من مشاعر فرح وامتنان، بعد أن شمل عفو جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، أبناءها من مزارعي القنب الهندي، الذين عانوا طويلاً من ويلات الملاحقات القضائية. اليوم، نقف جميعاً في صف واحد لنرفع أكفّ الدعاء شكراً وامتناناً لجلالة الملك، الذي أبان مرة أخرى كعادته عن عمق حكمته ورؤيته الإنسانية الثاقبة، وعن رغبته الصادقة في نشر الرحمة بين أفراد هذا الوطن العزيز.
إن العفو الملكي الذي صدر بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، يأتي كأسمى تعبير عن روح التلاحم بين العرش والشعب، تلك العلاقة التي لطالما كانت ركيزة استقرار هذا الوطن. هذه المبادرة الملكية لم تكن فقط قراراً قانونياً أو سياسياً، بل كانت بادرة حب وحنان من ملك همّه الأول والأخير هو رفاهية شعبه وكرامته. لقد جاء هذا العفو ليكون بمثابة النور الذي يشق طريقه في صعوبات وظلمات التهميش والمعاناة التي عاشها الكثير من أبناء الجبل.
منطقة “بلاد الكيف”، كما يعرفها الجميع، هي تلك البقعة الجغرافية التي امتزجت تربتها بعرق أبناء الجبل منذ أجيال. تلك التربة التي شهدت على تعب وكفاح أهاليها في سبيل لقمة العيش، حيث لم يجد الكثير منهم خياراً سوى زراعة القنب الهندي كوسيلة للعيش. لكن هذه الزراعة، التي كانت بمثابة السيف ذي الحدين، أوقعت العديد من العائلات في فخ الملاحقات القانونية والمتابعات القضائية والأزمات الاجتماعية التي أثرت على نسيج المجتمع هنا.
لقد كانت زراعة القنب الهندي (الكيف) تمثل للبعض مساراً إجبارياً فرضته الظروف القاسية والتهميش الذي تعانيه هذه المناطق. وبدلاً من أن يكون مصدراً للرزق، تحول إلى عبء يثقل كاهل الكثير من الأسر التي وجدت نفسها فجأة في مواجهة القانون، وسط مشاعر الخوف والقلق من المستقبل المجهول والهروب من الإدارة.
لكن، وسط هذا المشهد القاتم، جاء العفو الملكي ليكون بمثابة البادرة الإنسانية التي انتظرها الجميع. بفضل حكمة جلالة الملك، بات بالإمكان أن تطوى صفحة المعاناة وتفتح صفحة جديدة من الأمل والفرص الجديدة.
إن ما يميز جلالة الملك محمد السادس، هو تلك القدرة الفريدة على الإنصات لهموم شعبه، خاصة أولئك الذين يعيشون في المناطق النائية والمهمشة في المغرب الجبلي والقروي. لم يكن هذا العفو مجرد قرارٍ عابر، بل كان نتيجة متابعة دقيقة للأوضاع الصعبة التي يعيشها أبناء الجبل. جلالة الملك، بصفته الراعي الأول لمصالح الشعب، أدرك تماماً أن العديد من أبناء هذه المنطقة اضطروا إلى هذه الزراعة ليس بدافع الجريمة، بل بدافع الحاجة والبقاء.
إن القرار الملكي لم يكن مجرد عفو عن مزارعين، بل كان عفواً عن جروحٍ اجتماعية امتدت لعقود. جاء ليقول لأبناء الجبل: “أنا معكم، أفهم معاناتكم، وأقف إلى جانبكم”. هذا الإحساس بالمسؤولية العميقة تجاه أبناء الوطن، هو ما يجعل من جلالة الملك رمزاً للرحمة والعدل في قلوب كل المغاربة.
أبناء الجبل لطالما كانوا رموزاً للصلابة والتحمل، يعيشون في ظروف مناخية وجغرافية قاسية، يواجهون التحديات البيئية والطبيعية بروح الكفاح والإصرار. لكن، رغم صلابتهم، لم تسلم حياتهم من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي تسببت فيها قلة الفرص وانعدام البدائل.
إن الظروف التي يعيشها أبناء هذه المناطق الجبلية جعلتهم في كثير من الأحيان يشعرون بأنهم منسيون، بعيدون عن عجلة التنمية التي تدور في أماكن أخرى من الوطن. ومع ذلك، ظلوا مرتبطين بجذورهم وبأرضهم وتقاليدهم، يعانون في صمت، منتظرين لحظة التغيير التي قد تأتي يوماً ما.
واليوم، ومع هذا العفو الملكي، يمكن القول إن تلك اللحظة قد حانت. فبعد سنوات من المعاناة والتهميش، يمكن لأبناء الجبل أن يروا بصيص أمل في الأفق. هذا العفو ليس فقط قراراً قانونياً، بل هو دعوة صريحة لإعادة النظر في وضعية هؤلاء المزارعين وتوفير بدائل حقيقية لهم تمكنهم من العيش بكرامة وبدون خوف، وتقنين الزراعة هو المدخل الرئيسي.
إن العفو الملكي الذي شمل مزارعي القنب الهندي في “بلاد الكيف” يمثل فرصة ذهبية لإعادة النظر في الواقع التنموي لهذه المناطق. إنه دعوة للجميع، من مسؤولين مركزيين وترابيين وسلطات محلية ومنتخبين، للعمل معاً من أجل وضع خطط تنموية حقيقية تضمن مستقبلاً أفضل لأبناء الجبل.
التحولات التي يشهدها العالم اليوم، والفرص التي تتيحها الزراعة المستدامة، تجعل من الممكن تحويل هذه المناطق إلى مراكز إنتاجية مهمة تساهم في خلق فرص الشغل وجذب استثمارات وطنية وأجنبية، شريطة توفر الإرادة السياسية والاستثمار في البنية التحتية والتعليم والصحة والشباب والتكوين المهني.
إن أبناء الجبل، وهم يتلقون هذه البادرة الملكية السامية، يشعرون بامتنان عميق تجاه جلالة الملك محمد السادس، نصره الله. عفوكم يا جلالة الملك أعاد الأمل للكثير من العائلات التي كانت تعيش في خوف دائم من الملاحقات القانونية والهروب من الإدارة بشكل عام. قراركم أعاد الطمأنينة إلى قلوب الكثيرين، وفتح باب الأمل في مستقبل أفضل لأبناء هذه المناطق الجبلية النائية.
إننا نعتبر هذه المبادرة الملكية بمثابة نقطة تحول في حياة الكثير من الأسر والمزارعين. إنها فرصة جديدة للبداية، فرصة لبناء حياة كريمة ومستقبل أفضل لأبناء المنطقة كاملة. بفضل حكمة جلالتكم ورؤيتكم الثاقبة، نستطيع اليوم أن نحلم ونرى قدوم غدٍ أفضل.
إن عفو جلالتكم هو رسالة قوية لجميع أبناء الجبل بأنهم ليسوا وحدهم، وأن العرش العلوي المجيد يظل دائماً السند والداعم الأول لهم في كل الظروف. إنها رسالة بأن هناك دائماً فرصة للتصحيح، وأن المغرب، تحت قيادتكم الحكيمة، هو وطن يحتضن جميع أبنائه ويوفر لهم سبل العيش الكريم.
إن العفو الملكي الكريم يفتح باباً واسعاً للتفكير والعمل. التفكير في حلول مستدامة لتنمية هذه المناطق وفق مقاربة دامجة، والعمل على تحقيق تلك الحلول على أرض الواقع. هذه الدعوة الملكية يجب أن تكون نقطة انطلاق لجميع المعنيين، من سلطات ومؤسسات وإدارات عمومية ومنتخبين والمجتمع المدني والقطاع الخاص، للعمل معاً من أجل خلق بيئة تمكن أبناء الجبل من العيش بكرامة، بعيداً عن زراعة القنب الهندي غير المقنن. وهي فرصة لخلق الثروة وتوزيعها وللإدماج الاقتصادي والاجتماعي لهم ولأسرهم بعيداً عن الخوف والابتزاز والهروب من مؤسسات الدولة والقطيعة مع الماضي الأليم الذي عاشته المنطقة.
إننا بحاجة إلى استراتيجيات تنموية متكاملة تشمل التعليم والصحة والفلاحة والبنية التحتية، وتعمل على خلق فرص عمل حقيقية ومستدامة للإقلاع الاقتصادي والتنموي يكون التقنين جزءاً مهماً منها. يجب أن نعمل كل من موقعه من أجل تحويل هذه المنطقة إلى نموذج في التنمية المستدامة، بحيث تصبح “بلاد الكيف” منطقة زراعية-صناعية تنموية بامتياز، تساهم في تحقيق الأمن الغذائي والتنمية الاقتصادية.
في الختام، لا يسعنا إلا أن نرفع أكف الضراعة بالدعاء لجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، على هذه المبادرة الإنسانية السامية التي أعادت الأمل لأبناء الجبل. شكراً جلالة الملك على هذه الالتفاتة الملكية الكريمة، شكراً على عطفكم وحنانكم وتفهمكم لمعاناتنا، وشكراً على دعمكم المستمر لنا.
نعدكم يا جلالة الملك بأن نكون على قدر المسؤولية، وأن نعمل بجد وإخلاص من أجل تحويل هذه الفرصة إلى واقع ملموس ينعكس إيجاباً على حياة أبناء وبنات هذه المناطق. حفظكم الله ورعاكم، وأدامكم ذخراً وسنداً لهذا الوطن العزيز.
“إن الوطن غفور رحيم”.