المحرر
في مشهد يعكس التردي المتنامي في المشهد الإعلامي المغربي، خرج الطاهر سعدون، المتقاعد من جهاز الدرك، بتصريحات غريبة لموقع “شوف تيفي”، معلِّقًا على حادثة سقوط طائرة بمطار فاس، واصفًا نفسه بـ”الخبير الأمني”. غير أن المتتبعين لما جاء على لسانه لم يجدوا في أقواله إلا خلطًا للمفاهيم، واستعراضًا سطحياً لبعض المصطلحات التقنية التي حاول من خلالها إضفاء مصداقية زائفة على تحليله.
الطاهر سعدون، الذي ارتبط اسمه في مساره المهني بتحرير مخالفات الطائرات لا غير، وجد نفسه فجأة في موقع “الخبير”، يتحدث بلغة لا تمت بصلة لا للأمن ولا للطيران المدني، مستغلًا معرفة متواضعة اكتسبها من اشتغاله سابقًا في محيط أحد المطارات. لكن ما كشفته تصريحاته في الواقع لم يكن سوى جهلٍ خطيرٍ بطبيعة المعلومة الأمنية والتقنية، وتقديمٌ مغلوطٌ لمعطيات لا سند لها، لا علميًا ولا مهنيًا.
ولعل التساؤل المشروع الذي يطرحه كثيرون اليوم هو: ما هي الخبرة الأمنية التي تخوّل للطاهر سعدون أن يضع نفسه في مصافّ المحللين والخبراء؟ إذ لم يُسجّل له أي إنجاز يُذكر على المستوى الأمني، ولم يشارك في أي مهمة تدريبية أو مهنية دولية، ناهيك عن كونه لم يقد يوماً عملية أمنية ذات شأن. فكيف يمكن وضعه في خانة “الخبراء الأمنيين”، في وقت تساهم فيه كفاءات مغربية حقيقية من جنرالات وقيادات أمنية في تأمين بلدان كبرى من داخل منظمات دولية مرموقة؟
الأخطر من ذلك أن سعدون تطرق إلى مواضيع تقنية دقيقة، مثل استهلاك الطائرات للوقود وقوة المحركات، مستعرضًا معلومات مغلوطة، من قبيل أن “الكيلونيوتون” هو المقياس الوحيد لقوة المحرك، متجاهلًا أن المقاييس تختلف حسب السياقات (الحصان الميكانيكي، النيوتون، إلخ). بل إن مستوى حديثه عن “الإيروديناميك” فاجأ حتى الطيارين ذوي الخبرة، في حين أن الشكوك تحوم حول ما إذا كان المعني بالأمر يمتلك حتى رخصة سياقة شاحنة، فما بالك بخبرة في الطيران أو الأمن!
تصريحات الطاهر سعدون، التي انتشرت بسرعة، لم تسهم إلا في تأكيد ظاهرة مقلقة: تفشي التفاهة الإعلامية، وتحول بعض المنابر إلى منصات للتضليل بدل التنوير، حيث يُستبدل المتخصصون الحقيقيون بأشخاص يلوكون مفردات لا يفهمونها، ويقدمون “التحليل” كما يقدم العرافون تنبؤاتهم.
إذا كانت هذه هي “الخبرة الأمنية” التي تروج لها بعض وسائل الإعلام، فإننا فعلاً أمام حالة من الإفلاس المهني، حيث يعلو الصوت الأجوف على صوت الكفاءة، وتُمنح المنابر لمن لا يتقن سوى الإيهام. وهي مناسبة لإعادة النظر في المعايير التي يتم بها استدعاء المحللين والخبراء، حفاظًا على ما تبقى من مصداقية في مشهد إعلامي بات أقرب إلى السيرك منه إلى مؤسسة تؤطرها المسؤولية والاحتراف.